جسر: خاص:
عقب مقتل قائد لواء القدس التابع للحرس الثوري اﻹيراني “قاسم سليماني”، عقد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أول أمس الجمعة، اجتماعا أمنيا لمدة ثلاث ساعات برئاسته في قصر “دولمه بهتشه” باسطنبول.
وضم اﻻجتماع مسؤولين أمنيين وديبلوماسيين وعسكريين رفيعي المستوى، حيث حضره رئيس الاستخبارات حقان فيدان، ونائب الرئيس فؤاد أوقطاي، ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، ووزير الدفاع خلوصي أكار، المتحدث باسم الرئاسة ابراهيم قالن، ونائب رئيس حزب العدالة والتنمية ماهر أونال، والمتحدث باسم الحزب عمر جيليك.
وبحسب بيان أصدره رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون، الذي كان حاضرا أيضا، فقد بحث المجتمعون التطورات الأخيرة في العراق، والتوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، والوضع الراهن في ليبيا وسوريا، وجميعها ملفات متصلة.
وإذا كان سليماني مهندس السياسة اﻹيرانية في المشرق العربي وسوريا تحديدا، فإن حقان فيدان نظيره التركي الذي رتب معه على طول الخط اﻻتفاقيات التي أبرمها الضامنان برعاية ثالثهما الروسي عبر مسار أستانا، الذي لا يعدو أن يكون تحالفا اضطراريا ينتظر كل طرف فيه سانحة يستغلها لتحقيق مصالحه ولو على حساب الشركاء.
وبالطبع، فإن مقتل سليماني حدث إقليمي، يستحق أن يهرع لبحث تداعياته المسؤولون في بلدان المنطقة، لكن خصوصية إضافية يكتسيها بالنسبة لثلاثي أستانا، المسار الذي ما كان لينطلق لولا الانخراط العسكري الروسي في الصراع السوري؛ بعد زيارات متواترة قام بها سليماني إلى موسكو بين صيف العام 2015 ونهايته، يبدو أنه تمكن خلالها من إقناع الرئيس الروسي بوتين بالتدخل على الشكل الذي رأيناه في حلب ونراه في إدلب اﻵن، ليقود سليماني بعدها جهود تطبيق التفاهمات على اﻷرض.
هنا يبدو سليماني لا سواه، عرّاب الظل لمجمل المسار، فقد عمل على تهيئة الظروف لإطلاقه باستدعاء التدخل المباشر للراعي الروسي، ثم قاد تنفيذ تفاهماته عبر شبكة ميليشيات يتحكم بها على كامل الجغرافيا السورية، التي تكاد تخلو من أي قوات برية معتبرة للثلاثي الضامن سواها. فعليا؛ لقد قاد سليماني منذ انطلاق المسار حتى وقت قريب قبل مقتله، القوات البرية لثلاثي أستانا، ونظم بالتنسيق مع نظرائه قطف ثماره.
وبعد أن أمنت حدودها مع سوريا عقب عملية “نبع السلام” التي كُرست نتائجها في قمة “سوتشي” بين بوتين وإردوغان، وأُجِّل حسم بعضها اﻵخر لحين التفاهم مع إيران في أستانا، تلتفت تركيا مؤخرا لتأمين مصالحها عبر المتوسط في ليبيا، وهناك أيضا تجد نفسها في مواجهة الروس الذي يدعمون خليفة حفتر ضد حكومة “الوفاق” التي أبرمت معها مذكرتي تفاهم تقضي إحداهما بإرسال قوات لحماية العاصمة طرابلس.
والحق، أن تفويض إرسال القوات لا يعدو أن يكون أداة تركيا لحماية اتفاقية الحدود البحرية من خلال حماية الطرف الذي أبرمتها معه، هنا تركيا تدافع عن مصالحها بشكل مباشر ضد روسيا التي تدعم قوات حفتر في حربه ﻹسقاط حكومة السراج، وبالتالي إسقاط تفاهماتها مع تركيا، وهو أمر باشره حفتر فعلا بإعلان “الجهاد ضد المحتل التركي”، وعقد جلسة للبرلمان، قطع فيها العلاقات مع تركيا، ورفض التصديق على التفاهمات، وأحال فايز السراج ووزير خارجيته للنائب العام.
وبعد سوريا، يبدو أن تركيا بحاجة روسيا في ليبيا أيضا، وكما ضغطت على “الوحدات الكردية” شرق الفرات وأجبرتها على الانسحاب من الشريط الحدودي بعد تفاهمات “سوتشي”، تريدها أن تضغط على حفتر ربما، لتمرير الاتفاقيات الحيوية لجهة حماية المصالح في المتوسط أمام التقارب المتسارع بين خصمين لدودين لها، هما مصر واليونان.
لكن حفتر الزاحف باتجاه العاصمة ليس “الوحدات” المنكسرة أمام اﻵلة العسكرية التركية والمخذولة بانسحاب الحليف اﻷمريكي والمحاصرة بأعداء وخصوم متعددين، كما أن قدرات روسيا في ليبيا تختلف عنها في سوريا، وأمام الدعم اللامتناهي الذي يحظى به حفتر من دول خليجية وأخرى أوروبية، لا تملك روسيا إلا أن تقدم دعما مشابها خاليا من الضغوط أملا في كسب ثقته وحماية استثمارها فيه وربما اﻻستئثار بالتحالف معه.
سيخلّف مقتل سليماني ضعفا وارتباكا إيرانيا أمام شريكي أستانا، الروسي منهما على وجه التحديد، اﻷمر الذي سيوسع هوامش المناورة أمام روسيا وسيترك لها حرية أكبر للتلاعب بأوراق الملف السوري، ما سيعكس قوة في موقفها أمام الشريك التركي، الطامح لمواصلة عقد التفاهمات معها لحماية المصالح في ليبيا كما فعل في سوريا، لكنها كما سلف تفاهمات اضطرارية تحتاج توازنات أدق من أن تصمد أمام حدث كاغتيال سليماني.
لكل ما سلف، كان من الطبيعي أن تستنفر دوائر القرار في تركيا على أعلى مستوياتها، وأن يهرع المسؤولون فيها للاتصال بنظرائهم الإيرانيين، لتعزيتهم والتعبير عن حزنهم وتضامنهم، واﻷهم من ذلك كله؛ قراءة تأثير حدث كهذا على واحد من أهم الشركاء.