جسر: متابعات:
عزلة كورونا التي جعلت العالم كله يقبع في البيوت، يتابع إحصاءات النجاة وأعداد الوفيات عن بُعد، ويتابع تعليمه عن بُعد، يؤسس لمستقبل ما بعد كورونا أيضاً عن بُعد، يسجل في دورات ومحاضرات، يفتش عن كتب جديدة، أفكار تكسر الملل، وتلهم العمل، كل ذلك عن طريق الإنترنت، تذكرني بأمرٍ كان يحدث أيضاً بذات الطريقة في الثورة، يجري بين طرفين أحدهما محاصر في مكان جغرافي لا يستطيع الخروج منه لأن العسكر والجند والدبابات والقناصة يحيطون به، والطرف الآخر متاح له كل الاتساع الجغرافي، وبين يديه جواز سفر وحرّيّة تنقّل، يمكنه التجوال أينما أراد، وهو فعلاً يسافر أحياناً داخل بلاده أو خارجها، لكنه حقيقة مُحاصر أكثر، محاصر بالشخص الذي لا يستطيع الخروج من الحصار، ولا وسيلة ممكنة لتبادل الأفكار والمشاعر والخبرات إلا عن بعد.
خط الإنترنت الذي كان يغامر كثير من الناس في الحصار كي يتّصل أخيراً، يصعدون إلى الأسطح معرّضين أنفسهم للخطر كي يحصلوا على (الشبكة)، كان فعلياً أغلى ما يمكن لمحاصرٍ أن يحصل عليه، فهو أحد أهم شرايين الحياة في الحصار، ومن دونه يشعر بالعزلة المرعبة عن العالم، ويتخيل بأنه تراجع مئات السنين إلى الوراء، وبأنه صوتٌ بلا صدى، الأمر الذي يترك آثاراً من الحزن والكآبة والقلق في سلوكه وسائر أفعاله، ولذلك فالمحاصر يحرص على أن يبقى ( على الخط)، أو أن تبقى لديه ( الشبكة).
دوافع عاطفية
تبقى العاطفة سيدة الموقف لدى المحاصرين وكل من يرتبطون معهم برباط أسري أو مشروع خطبة أو صداقة أو حتى معرفة عادية، تتراوح المشاعر ما بين خوفٍ من الفقد بالدرجة الأولى، وتمسّك لا يمكن تفسيره بالحياة والأمل، أحلامٌ كثيرة نُسجت ما بين المحاصر ومعارفه، قلوبٌ خفقت بشدّة تنقل ما يمكن نقله من حب وتعاطف وحنين واشتياق، وعلى العكس من ذلك، فهنالك لحظات غضب جنونية مرّت بكثيرين من خلال الشبكة، إعلان انفصالٍ دائم، وصايا من مشاريع الشهداء لذويهم بالاهتمام بمن تبقى منهم، مواقف حازمة وصارمة ومفاوضات على أعلى مستوى في الأسرة، تحمّل الثائر المحاصر مسؤوليات عظمى في اتخاذ القرار المناسب، أو الموافقة أو الرفض على عروض كانت تنقلها الشبكة.
الأخبار عن بعد
الحصول على خبر جديد للمحاصر له قيمة أشبه بالحصول على كنز، الجميع دون استثناء، وأقصد بالجميع؛ كل طبقات الشعب وفئاتهم العمرية والثقافية يتابعون نشرات الأخبار، المؤيدة والمعارضة، التحليلات والأخبار العاجلة، يناقشونها بشكل جماعي في الملاجئ المعزولة عن الكرة الأرضية، نقاش السيدات العجائز ممتع ولافت للنظر، قوّة مواقفهن وردوهن على الأخبار كانت جديرة بالاحترام، فعندما تتسلل الأخبار من بعيد حاملة فايروسات خاصة، حرب نفسية معلنة ومخطط لها، كان هناك أفراد يجتهدون بالعمل على التعقيم، ويجاهدون في طرد الأوبئة التي تثير الخوف وتزعزع النفوس، ومع أن الإصابات تحصل غالباً فإمكانية منعها مطلقاً أمر شبه مستحيل، إلا أن فرق العمل على التعقيم كانت تقوم بدورها الفردي بوازع أخلاقي ثوري، وكانت تخفف الأزمة.
خارج إطار الحصار
نأتي إلى المحاصرين بالفكرة، المتابعين سير القضية ومجرياتها، الداعمين للثورة وإن لم يخوضوا تجربة الحصار فيزيائياً، إنما خاضوها عن بعد، شهدوا القصف عبر الفيديوهات والبث المباشر، حادثوا المحاصرين بطرق مشفّرة، حاولوا دعمهم نفسياً ومعنوياً، أمدّوهم بالطاقة والثبات، وأخبرهم كم أن دورهم مصيري ومحوري في مواجهة النظام، هذه الفئة حولت عزلة الآخرين إلى سلاح، وحولت عزلتها عنهم إلى أداة تمدّهم بالقوة، وتقدم لهم قيمة عظيمة في الحين الذي كان سواهم ينعتونهم بالمخربين والإرهابيين والفئة التي قامت بجلب البلاء وتخريب البلد. لقد استطاعت هذه الجهود الفردية التي لا يعرف بعضهم بعضاً أن تلتقي على فكرة وهدف واحد، وأن تقدم شيئاً مهماً في مرحلة كان العجز ذريعة الأغلبية، لقد كانت ثورتهم مختلفة، ثورة عن بعد لكنها عميقة التأثير.
لا شكر يوفي هؤلاء جميعاً حقهم، ممن ساهموا بإعادة الحياة لنفوس متعبة، الأمر المماثل الذي نشهده اليوم بأبعاد ورؤى مختلفة، هناك دائماً في المحن والمراحل الصعبة ما يمكن العمل عليه من أصحاب الهدف والفكرة.
نشرت في موقع تلفزيون سوريا 13/4/2020