“هذه الصورة أخذتها عصر يوم ٢٣/ ٩ /٢٠١٤، وكان يكتب في تلك اللحظات نصاً عن السيرة النبوية” هذا ما تقوله ايسال، التي يأتينا صوتها عبر الهاتف من بعيد، من الموصل العراقية، لينقل صوراً حيّة وكثيفة، لمأساة عائلية واحدة من آلاف المآسي التي خلفها ظهور تنظيم داعش. الغصة وجفاف الحلق، في لحظة الرعب، حين تمسك يد والدها الباردة، وتنظر إلى وجهه المصفرّ لحظة اعتقاله، نظرته اليائسة وهو يجاهد لطمأنتها؛ رقّة صوتها ممزوجاً بالحنين عندما تنتقل لرواية ذكريات عائلتها، ويمرّ وجه أب ستيني عطوف، يعاني من نوبات الربو بين الحين والآخر، نذر نفسه بعد تقاعده لتعليم الأولاد المحتاجين، وتقديم يد العون للفقراء، ويتهدج صوتها وتغدو نبرته مأساوية، حين تتحدث عن تفحصها للجثث في برادات مشفى الموصل الوطني، تقلب القتلى بحثاً عن والدها، ونشعر معها بالرعب والخوف، عندما تتردد خطواتها، ثم تحجم عن دخول الانفاق المعتمة تحت سجن مهجور لداعش، تسللت إليه خلسة: “فلربما نسوا أبي هناك”. لكن الأمل لا يغادرها، ترن نبرة التفاؤل في نهاية الحديث، مثل ومضة عابرة، فتضئ وجهاً متعباً لا نعرفه، لفتاة عراقية في منتصف الثلاثينيات، كادت أن تقتل عدة مرات في رحلة البحث المرعبة عن ابيها الذي اختطفه داعش قبل أربع سنوات، لكن “عيني ما انكسرت” على حد تعبيرها، ومازالت تبحث باخلاص نادر.
عبد الغني خليل حسن آل شمام، كان مديراً عاماً لتجهيزات الزراعة في محافظة نينوى العراقية، وكان يقيم في منطقة الرشيديه، وله فيها نفوذ وهيبة، فعدا عن تعليمه ووظيفته السابقة، هو أيضاً وجه عشائري في المنطقة، ولطالما تقاضت عنده القبائل المتخاصمة. ولم يكن يعلم أن ترشحه لعضوية مجلس محافظة نينوى عام ٢٠١٢ رغم انسحابه من ذلك الترشيح، سيكون سبباً في اختفائه بعد سنوات، عندما ستظهر داعش وتستولي على الموصل في منتصف سنة ٢٠١٤، وذلك بتهمة “محاولة” الانضمام إلى حكومة “مرتدة”.
عندما بلغ عبد الغني سن التقاعد تفرغ للعمل في الجامع الذي بناه صدقة لروح والده، فضلاً عن إعطاء الدروس للطلاب المحتاجين، كما كان يقدم المساعدات المادية للفقراء كلما استطاع، بمساعده ابنته التي كانت تتواصل مع النساء. كانت الأوضاع جيدة في الأشهر الثلاثة الأولى من دخول داعش إلى المدينة، فقد كانوا يسمحون له أن يقيم الصلاة ولم يتعرضوا لأحد بأذى، ولكن بعد ذلك شنت التنظيم حملة اعتقالات واعدامات رهيبة، واستولت على أملاك الناس بما فيهم عبد الغني خليل، وسلبوه سيارته وأراضيه، ولكن عندما ارادوا الاستيلاء على الجامع قاوم لكونه بناه بنفسه وله الحق بإقامة الصلاة فيه، وهنا انطلقت شرارة القضية التي انتهت باختطافه.
تروى ايسال اليوم الذي وصفته بأنه أسوأ يوم في حياتها، دون أن تنسى ذكر تاريخ كل تفصيل ترويه بأدق تفاصيله كأنه حدث للتو، تقول في يوم ٢٣/٩/٢٠١٤ تجادل عناصر من داعش مع والدي حول محاولته الترشح والانتساب للحكومة السابقة التي وصفها والدي بأنها لم تكن مرتدة، وبأنها كانت السلطة الحاكمة في ذلك الوقت، وهدفه من الترشح كان مساعدة الفقراء، وفي عصر ذلك اليوم شعرت بأن خطر (غامضاً) يقترب منا، وطلبت منه أن يهرب لكنه رفض. فقد كان يخشى على عائلة أخي الذي كان يعمل في الشرطة، وتوارى عن الأنظار عندما بسطت داعش سيطرتها على المدينة، لأن الإعدام من نصيب كل منتسبي الأجهزة الأمنية، وقرر البقاء في المنزل، وكان حدسي بمكانه فبعد صلاة العشاء اقتحم منزلنا حوالي خمسون مسلحاً، وكنت مع اخوتي وامي في المنزل وليتنا لم نكن، لأنني شهدته في ذلك الموقف المؤلم، وقالوا أنه سيتم التحقيق معه ويتم ارجاعه، ولكن هذا كان مجرد كلام، ولا استطيع أن أصف اللحظات حين ودعناه بوجهه المصفرّ ويده الباردة، ونظرته الخائفة وهو يحاول أن يطمئنني، اخذوه يومها مع ستة عشر شخصاً آخرين من منطقتنا، لم يعد منهم سوى واحد”.
ايسال هي الابنة البكر(٣٦عام) لعائلتها المؤلفة من ثلاثة أشقاء وأخت واحدة، وعلاقتها بوالدها كانت مميزة، علاقة بين صديقين، على حد تعبيرها، كل منهما يأخذ رأي الآخر في أخص شؤونه، حتى أنه كان يناقش معها خلافاته مع والدتها. تعزو إيسال اعتقال والدها لأسباب انتقامية من اشخاص كانوا يكنون له الضغينة في المنطقة منذ زمن طويل، وتقول مستغربة: “هؤلاء آخر من كنا نعتقد أن ينضموا للتنظيم، كانوا أسوأ الناس، ولم يكن لديهم أي ميول دينية، لكنهم انضموا عندما بسط سيطرته انتهازاً للفرص، ولفرض سلطتهم على الآخرين”.
أربع سنوات مرّت، لم تتوقف خلالها عن البحث عن والدها، وعرّضت نفسها لخطر الموت عدّة مرات: “لم أعد أخاف من الموت، بل هو سبب راحة لي، لقد أخذ أعزّ شيء في الدنيا، وعندما أموت سألتحق به، وبعد الذي رأيته من جثث ومعذبين وقصف لم أعد أهاب شيئاً، اصلاً لم يعد لدي رغبة في هذه الحياة”.
بداية محاولاتها في البحث كانت في دار المظلمة في الموصل، في منطقة الفيصلية، إلا أن القاضي الذي تظلمت إليه أخرج مسدساً ووضعه في رأسها بعد معرفته بأن والدها سبق له الترشح لمجلس مدينة الموصل، وقال لها مهدداً: “هل تعتبرين نفسك مسلمة لتأتي إلى هنا، أنت مرتدة مثل ابيك، ولكن لن اقتلك اذهبي وتعذبي في الحياة فأمثالك يجب ألا يموتوا، الموت راحة ولن أعطك إياها”. وعندما ذهبت إيسال إلى ما يدعى بدار المظلمة مرة أخرى، انسكب عليها الظلم من السماء، اذ قصفت طائرات اميركية المكان، تقول ايسال لم ادرك ما يحدث، اخروجوني من تحت انقاض ابواب وشبابيك، أصيبت بجوح خفيفة، فواصلت المسير إلى منزلي: “ذهبت إلى بيتي، وبجلست مصدومة ومذهولة لعدة أيام، ماهذا، مالذي يحدث، هل أنا في واقع أم في منام؟”.
لكنها مالبث أن استعادت عزيمتها، وذهبت إلى ما يدعى دار الحسبة، التي تقع إلى جانب جامع المحسنين بمنطقة القطانين في الموصل، وعند وصولها تعرضت للشتم نظراً لمجيئها دون “محرم”، وهنا وقعت في ورطة إضافية، فقد سألوها لماذا لا يأتي أولاد المختطف للسؤال عنه، كان اخوتها متوارون عن الأنظار، لأنهم موظفون في الحكومة السابقة، وإن علموا بذلك سيبحثون عنهم، لكن قبل أن يصل الأمر إلى هذه النقطة، تشاجروا فيما بينهم من أجل “غنائم” وصلت إلى مقر الحسبة في تلك الاثناء، فاستغلت انشغالهم وهربت.
تقول إيسال: ” عشت قصص كالخيال، رأيت جثث ودخلت برادات الموتى بوساطة أحد الاشخاص الذين أعرفهم في الطب العدلي، شاهدت حالات مرعبة، جثث بلا رؤوس، وأخرى أعدمت بالغرق والخنق بالسلك الكهربائي كما شاهدت نساء تم اعدامهن”. وتتابع “يقع خلف منزلنا سجن لداعش قصفته طائرة أمريكية فغادروه، دخلته خلسة دون إن أفكر إن كان ملغماً أم لا، فقد قلت لنفسي ربما يكونوا قد نسوا والدي هناك، فوجئت بوجود أنفاق كثيرة مظلمة خشيت من دخولها، وأن اتوه فيها، في الحقيقة لقد جبنت، وعدت أدراجي”
في ربيع عام ٢٠١٧ تعرض سجن بلدة هجين في سوريا للقصف من الطيران الأمريكي، وكان والد إيسال فيه بحسب شهادة أبو حسين ٦٦ عام، وهو أحد الناجين من ذلك القصف/ من محافظة الانبار العراقية، وبعد عام وثمانية أشهر استطاعت إيسال السفر من الموصل للأنبار وحيدة من أجل مقابلته، وبعد مصاعب كبيرة، سمح لها ذوه بمقابلته، فقد كان الرجل منهاراً ويعاني من الأمراض والأصابات، أخبرها أن والدها كان سجيناً معه، وإن تنظيم داعش نقلهم بعد خسارته لمنطقة تلعفر إلى سورية، وأن والدها لم يتعرض لتعذيب، فقد صدر بحقه حكم التهجيرـ وبموجبه يمنع من العودة لأهله ويبقى لدى داعش حتى الموت، وعند قصف السجن في سوريا، تمكن أبو حسين من الهرب، لكنه لم يعد يعرف شيئاً عن عبد الغني خليل .
تقول ايسأل إنها تحرص مع اخوتها بشكل يومي على تنظيف الجامع الذي بناه، كل شيء مرتب والشبابيك لامعة وخالية من الغبار، كما حين كان بعهدته، فلربما يعود بشكل مفاجئ ويذهب لرؤيته “يجب أن يجده كما تركه”، تقول ابنته البكر، التي تضيف بأن ملابسه لا زالت تغسل وتكوى وتوضع في “الدولاب”، وصوره تملاً جدران البيت، وصلوات والدتها لا تنقطع على أمل العودة، وتنهي حديثها بحزن يكتنف بصيص أمل: ” لقد جبت العراق من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، دون جدوى، لكنني لم افقد الأمل، انظاري الآن متوجهة نحو سوريا، ولكنني لا أعرف أحداً هناك، ولا أدري إلى أين أتوجه، أنا آمنت بالقدر، إن كان والدي ميتاً فليتقبله الله برحمته، وإن كان على قيد الحياة أريد الوصول إليه أو معرفة أي خبر عنه، فرحلتي في البحث عنه لن تتوقف ما حييت، وحتى ذلك الوقت، أوجه ندائي إلى أهل سوريا، في المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش، ليساعدونا في معرفة أي شيء عنه، أو أي معلومة مهما كانت صغيرة، وأملي بهم وبالله كبير“.