جسر: متابعات:
يبدو من السلوك العسكري لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) خلال الحملة العسكرية الواسعة التي يشنها نظام الأسد، مع حليفيه الروسي والإيراني، في إدلب، أن الهيئة لا ترى في المعركة الراهنة معركتها الأخيرة، وأنها تنظر إلى ما هو أبعد من هذه المعركة. لا يمتلك التنظيم مكاناً آخر يلجأ إليه، فيما لو أراد مبادلة السلامة بالأرض مع قوات الأسد وحلفائه، والتنظيم مصنّف إرهابياً من كل الأطراف، بما في ذلك الطرف التركي، فما الذي يفسر سلوكه العسكري في هذه المعركة، والمتمثل في انسحاباته المتتالية، وتعزيز حواجزه على حدود منطقة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي لعرقلة وصول تعزيزات من الفصائل الأخرى إلى خطوط القتال؟ وما الذي يفسر عدم دخوله في المعركة، وهي معركة مصير، كما هو مفترض، بأكثر من 20% إلى 30% من قواته، كما يقول المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير”، مصطفى سيجري، مضيفاً أننا “لم نشهد السلاح الثقيل للهيئة، ولا فتحت مخازنها، ولم نجد الاستشهاديين والانغماسيين الذين طالما تغنت بهم”.
تمنع الهيئة المسلحين من مواليد محافظة إدلب بالتحديد، وترفض عودتهم إلى مناطق المواجهات في إدلب، فيما تسمح بدخول المسلحين من الغوطة الشرقية ودير الزور وحمص، وفق شروطٍ حدّدتها. أي إنها تتصرف وفق مقتضياتٍ لا تتطابق مع مقتضيات المعركة الدائرة. وفي تفسيرها ذلك، تقول إنها “تخشى على نفسها من عودة الفصائل التي حاربتها في إدلب، أو مسلحيها، وذلك من تمكين يد هؤلاء في مناطقهم، وتعتبرهم خطراً على مشروعها في البقاء والتفرّد بالساحة”. ويثير تصريح الهيئة الاهتمام من ناحيتين: الأولى أنه لا يبدي تخوفاً على “البقاء” من تقدّم قوات نظام الأسد، بل من “عودة الفصائل التي حاربتها في إدلب”. وفي هذا ما يشي بأن الهيئة لا ترى، أو تحاول ألا ترى، في نظام الأسد تهديداً لوجودها، وقد بات هذا مشروعها. أي إن في مشروعها أن تجعل نفسها مقبولةً من نظام الأسد، أو مفيدة له، بلغة أدق، بعد أن تعثر مشروع إسقاطه، وبعد أن تحولت قضية إدلب إلى تفصيلٍ في عملية إعادة قبول النظام ضمن ترتيبات إقليمية جديدة، من ضمنها معالجة القلق التركي حيال الوضع الكردي في شمال شرق سورية. ربما تطمح الهيئة بوظيفة محلية ذات طابع أمني، أو تتطلع إلى أن تكون القوة الأولى في منطقةٍ لها نوع من “إدارة ذاتية” يجري الحديث عنها، وتكون ذات صلة خاصة مع تركيا.
يمكن تلمس هذا التحول لدى الهيئة بوضوح أكبر من الناحية الثانية التي يكشفها التصريح، وهي الإعلان المباشر عن إرادة “التفرد بالساحة”. تريد الهيئة أن تقول إنها حريصة على أن تكون القوة الأولى التي تستطيع أن تكفي النظام شر القوى الأخرى، بما يفتح لها باباً في مستقبل سورية، في دور مغاير ومختلف بالكامل عن “مشروعها” الجهادي الأول. وقد سبق للجبهة أن عرضت، خلال السنوات الماضية، نموذجاً لافتاً من الاستعداد لشتى صنوف التلوّن والجمع بين التشدّد والقبول، وتغيير التسمية، وفك الارتباط بالقاعدة، وشتى صنوف التحالفات والتفاهمات المخفية، وحفظ خطوط الرجعة دائماً، سيما مع الأطراف القوية.
كان واضحا منذ سنوات أن استمرار الحال في إدلب تحت سيطرة الهيئة غير ممكن. المقدرة السياسية التي تميزت بها الهيئة دائماً لا تترك مجالا للشك في أنها كانت تدرك هذه الحقيقة، وكانت تفكر بمخرج سياسي من الأزمة التي تهدّد وجودها نفسه، طالما أن المخرج العسكري بات غير ممكن، وطالما أن وجودها على خطها الجهادي بات مستحيلاً، مهما تأخر الحسم. وقد بات الأمر أكثر إلحاحية، بعد أن تعهدت تركيا، في اتفاق سوتشي (سبتمبر/ أيلول 2018) بإقناع الهيئة بحل نفسها، أو بالاندماج مع باقي الفصائل المسلحة التابعة لتركيا، في مهلةٍ تنتهي في 15 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه.
لم تكتف الهيئة برفض اتفاق سوتشي الذي شكل خطراً فعلياً على وجودها، ولم تنجح فقط في تجاوز الحد الزمني الذي وضعه الاتفاق لإنهاء وجودها، بل فاجأت الجميع في مطلع 2019، بإقدامها على خطوةٍ معاكسة لاتجاه سوتشي، وبدلاً من أن تنهي وجودها، كما يقتضي التفاهم الروسي التركي، هاجمت الفصائل الأخرى القريبة من تركيا، ودمّرت كياناتها وصادرت أسلحتها الثقيلة، وفرضت سيطرتها على إدلب في غضون أسابيع قليلة. ولا يزال طي الغموض كيف استطاعت الهيئة تنفيذ سيطرتها العسكرية حينها، تحت نظر القوات التركية، وكيف أن هذه القوات لم تتحرّك لنجدة أي من الفصائل التي تعتبر حليفة لتركيا. هذا يقول إن الهيئة تتقن فن التعامل مع الدول، وفن استثمار التباينات بين الدول، والتمهيد الجيد لخطواتها “العدوانية” على الفصائل الأخرى، أي إنها تتقن تنفيذ “مشروعها” سياسياً، وليس فقط عسكرياً. ما يظهر تفوقها السياسي الواضح على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
سياسة الهيئة ومحاولة التأقلم مع معايير الواقع والعصر، بعد أن لامست الحدود الضيقة للاستمرار في “جهاديتها”، هو التفسير لما يتردّد من كلام عن احتمال أن ترفع واشنطن اسم الهيئة عن لائحة التنظيمات الإرهابية، وجعلها طرفاً في المباحثات بشأن مستقبل سورية. ومعروف أيضاً أن للهيئة تواصلات مستورة مع الجانب الروسي، تم من خلالها التوصل إلى تفاهماتٍ تتعلق بفتح معابر بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة النظام، مثل معبر مورك في ريف حماة الشمالي، ومعبر العيس في ريف حلب الجنوبي، هذا فضلاً عن مرونة الهيئة أو “دبلوماسيتها” فيما يخص القبول بفتح الطرق الدولية، وتسيير الدوريات الروسية التركية، والاستثمار في الفاصل الوهمي بينها وبين “حكومة الإنقاذ” التابعة لها، فتدفع الحكومة إلى إعلان مواقف، فيما تحجم هي عن إعلان موقفها رسميا.
يرسم كل ما سبق ملامح المشروع الذي يتحكم بمسار الهيئة وسلوكها العسكري في الوضع الراهن في إدلب. المشروع الذي يمكن وصف محطته النهائية بأنها مقايضة الأرض والسلام بالمشاركة. هذا المشروع، إذا تحقق، سيجعل زعيم الهيئة، أبو محمد الجولاني، يكرّر في إدلب المسار الذي اختطه رمضان قادروف في الشيشان. على هذا، يمكن أن يعرض علينا الواقع السوري المعقد كيف يفضي الطريق الجهادي المتطرّف، بعد سنوات طويلة من صراع عدمي، إلى المستنقع الأسدي نفسه.
العربي الجديد 28 آب/أغسطس 2019