جسر: صحافة:
من سدّة البرلمان اللبناني، و”أنا مسؤول عن كلامي” حسب وعيده، حرّض النائب/ اللواء المتقاعد جميل السيد على إطلاق النار “من الشباك” ضدّ كلّ مّن يقترب من بيته ويحكي “كلمة برّات الطريق” بخصوصه؛ والتحريض موجّه إلى زملائه النوّاب وأخوته المسؤولين الذين يمكن أن تشهد منازلهم تجمّعات لمتظاهرين يتهمونهم بالفساد ويطالبونهم بالاستقالة. طريق قصيرة، وجيزة تماماً في الواقع، بين “ديمقراطية” لبنانية أتت به إلى مجلس النوّاب، ولم يجفّ الحبر بعد عن مضبطة اتهام له في قضية ميشال سماحة بشأن نقل عبوات ناسفة عبر أجهزة النظام السوري كانت معدّة للتفجير في لبنان؛ وبين تقديمه على لوائح “حزب الله”، وانتخابه بالفعل في دورة 2018 نائباً عن أحد المقاعد الشيعية في الهرمل.
وهذه محض “تفريعة” لطريق أخرى أطول هذه المرّة، شهدت تنقلاته (تحت رعاية مباشرة من غازي كنعان، قائد استخبارات النظام السوري في لبنان، ثمّ نائبه بعدئذ رستم غزالي) من نيابة إدارة المخابرات، ثمّ إدارة الأمن العام حتى تاريخ مقتل رفيق الحريري سنة 2005؛ وصولاً إلى اتهامه بالضلوع في عملية الاغتيال، وسجنه أربع سنوات، ثمّ خروجه من السجن في سنة 2009 بقرار من المحكمة الدولية الخاصة. وهذه الطريق الأطول انطوت على مباذل أمنية (فرض الرقابة على الكتّاب والصحافيين، ممارسة دور السوط بالنيابة عن أجهزة النظام السوري، إزاحة الخصوم أو إجبارهم على النفي الذاتي، سحب جوازات السفر…)؛ واتهامات أكثر خطورة ودموية، لا تبدأ من الحريري ولا تنتهي عند الشهيد سمير قصير (1960 ـ 2005).
وليست الدلالة واهنة بين إطلاق تصريح “التقويص” على المتظاهرين إذا خرجوا عن جادة الصواب اللفظي تحت نافذة السيد، وبين الذكرى الـ15 لاغتيال قصير، التي مرّت يوم 2 حزيران (يونيو)؛ مع فارق أنّ ضابط الأمن السابق الذي كان وكيل الخلايا الأمنية التابعة للنظام السوري أو “حزب الله” أو إيران، بات اليوم بمثابة صوت لهؤلاء في أكثر من منبر وموقع ومؤسسة، إلى جانب مجلس النوّاب. وهو بالتالي، وعلى أكثر من نحو، أحد أقبح تجليات الصفقة/ التسوية التي جمعت غالبية الأحزاب والساسة في لبنان، وأفرزت انتخاب ميشيل عون رئيساً للجمهورية واستيلاد حكومة سعد الحريري التوافقية الكسيحة. ولا عجب، والحال هذه عند سادة السيد أوّلاً وعنده شخصياً وتالياً، ألا يرى اللواء المتقاعد أيّ حرج، ولا يبصر رادعاً أيضاً، في التحريض على إطلاق النار تجاه مواطنين لبنانيين يتظاهرون سلمياً أمام داره.
والسيد الراهن، صاحب التصريح الفاشي الأخير، يعيد التذكير بأنّ عمليات اغتيال الكتّاب والصحافيين والنوّاب وضباط الأمن العام (قصير، جورج حاوي، جبران تويني، وسام عيد، بيير الجميل…)، التي أعقبت مقتل الحريري وانسحاب النظام السوري عسكرياً من لبنان، لم تكن أهدافها الكبرى أو المباشرة إسكات الأقلام والأصوات المعارضة، فحسب؛ بل كانت أيضاً تتوخى تكريس مبدأ السطوة الأمنية والعسكرية والسياسية القصوى للطرف الأقوى في البلد، “حزب الله”، بصرف النظر عن الطرائق والضحايا، وأياً كانت هوية أدوات التنفيذ. وضابط الأمن الذي عمد، بعد اغتيال قصير، إلى تلفيق السيناريوهات القذرة حول أسباب تفجير سيارة قصير ذلك الصباح، للتعمية على القاتل الحقيقي المعروف؛ لم يعد اليوم واقعاً في “الحرج” ذاته الذي طبع تلك الحقبة، وصار يستسهل اعتماد “التقويص” والتوصية به، ليس علانية فقط وإنما أيضاً من… سدّة البرلمان!
جميل السيد، وأمثاله ليسوا قلّة، هم الأشجار التي تخفي الغابة الإيرانية في لبنان، وليست أجهزة “حزب الله” سوى الزارع الذي يغرس ويرعى ويسقي ويسمّد، ويقلّم مراراً وكلما اقتضى الأمر
ولعلها طريفة، رغم وجاهتها قانونياً وأخلاقياً، تلك الشكوى التي رفعها إلى النائب العام التمييزي أربعة محامين لبنانيين، هم هاني الأحمدية وواصف الحركة وجاد طعمة وعلي عباس، للادعاء على السيد بجرم مشهود: “تحريض على القتل، التهديد، انتهاك الحقوق المدنية للمواطنين”. وقال هؤلاء في نصّ الشكوى إنّ عبارة السيد الداعية إلى “التقويص” من الشباك “واضحة وعلنية حملت في طياتها أفعالاً جرمية عديدة يعاقب عليها القانون، ليس أقلها التحريض العلني على القتل بدم بارد (547/217 عقوبات)، أو المنع من ممارسة الحقوق المدنية (المادة 329 عقوبات)، أو التهديد العلني بالسلاح (المادة 574 عقوبات)”. وأشار المحامون إلى أنّ حصانة السيد النيابية “لا تحول دون ملاحقته على أفعاله الجرمية كون جريمته مشهودة عملاً بالمادة 98 من النظام الداخلي لمجلس النواب، ولكون دورة انعقاد المجلس النيابي قد انتهت في نهاية شهر أيار الفائت”.
كذلك يذكّر السيد، اللواء ورجل الأمن المتقاعد، أو النائب المحرّض على “التقويص”، سواء بسواء؛ أنه محض أداة في غابة أدوات؛ وليس اغتيال وسام الحسن (1965 / 2012)، وهو على رأس شعبة المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، سوى أحد أوضح الأدلة على أنّ مبدأ إطلاق النار على الناس أو حتى تصفية الخصوم جسدياً، ليس سوى الشجرة التي تخفي غابة بأسرها، قوامها تكريس سطوة “حزب الله” بالوسائل والطرائق كافة، والبطش المباشر في مقدمتها. وإلى هذا فإنّ عملية اغتيال الحسن، بما انطوت عليه من تعقيد تقنيّ واختراق أمني عميق وذراع ضاربة طويلة، أكدت بأنّ “حزب الله” وأنصار النظام السوري وميليشياته، ليسوا وحيدين في التنفيذ، ولعلّ باعهم هو الأقصر في التخطيط وتوفير المعدّات اللوجستية.
وذات يوم روى روبرت باير ــ الصحافي، ورجل المخابرات المركزية المتقاعد، وصاحب كتاب “مواقعة الشيطان”، والبطل غير المباشر لشريط “سيريانا” الشهير ــ أنه سأل أحد رجال الأعمال السوريين المقرّبين من بشار الأسد، عن مستقبل لبنان؛ فردّ بالتالي: “لم يعد لبنان مشكلة سورية. لقد طردتمونا منه، فأسلمناه إلى إيران”. اغتيال الحسن، وسواه من خصوم إيران وأذرعها في لبنان وسوريا، تجيز المصادقة على الافتراض الذي سمعه باير، حول وقوع لبنان في القبضة الإيرانية؛ كما تقطع خطوة إضافية نحو تمحيص طبائع تلك الحال، في جوانبها الأمنية والاستخباراتية المعقدة. وإذا صحّ القول بأنّ للنظام السوري أكثر من ميشيل سماحة واحد، رابض في بقعة معتمة ما، ينتظر ساعة الصفر؛ فإنّ الصحيح، على قدم المساواة، هو ذلك الافتراض الآخر الذي يقول إنّ ما قد تملكه إيران من نماذج سماحة، في بُقَع أشدّ عتمة وقتامة، لعلّه أدهى بما لا يُقاس.
عناصر كثيرة، منبثقة عن منطق بالغ البساطة، أشارت إلى المستفيد المباشر من اغتيال الحسن؛ مثلما أشارت إلى “أصحاب”، وليس “صاحب”، المصلحة في حزمة الرسائل التي تبعث بها العملية، والعناوين المختلفة التي أُريد لدويّ التفجير أن يبلغ أسماعها. وجملة هذه العناصر تنتهي، على وتيرة المنطق البسيط إياه، إلى أنها عملية يصعب أن تُنفّذ في أيّ شبر من الأراضي اللبنانية من دون علم استخبارات “حزب الله”، وبالتالي الأجهزة الإيرانية. على سبيل الأمثلة، هل كان الحسن خصم النظام السوري؟ لا ريب في هذا، كما يقول تاريخ لبنان بعد اغتيال الحريري. هل كان “حزب الله” على خصومة مع العميد الحسن؟ نعم، بالطبع، ولأسباب لا تقتصر على تحالف الحزب مع النظام السوري، بل لأخرى تخصّ ملفات الحزب ذاتها.
وهكذا فإنّ جميل السيد، وأمثاله ليسوا قلّة، هم الأشجار التي تخفي الغابة الإيرانية في لبنان، وليست أجهزة “حزب الله” سوى الزارع الذي يغرس ويرعى ويسقي ويسمّد، ويقلّم مراراً وكلما اقتضى الأمر؛ وإذا جاز لبعض الأغصان أن تشتطّ في التوسّع والتمدد، فذلك لأنّ الجذع مسنود في الفضاء والجذر مترسخ في باطن الأرض: بالسلاح أساساً، وببعض “المال الطاهر” تارة، أو بمبدأ “التقويص” العلني تارة أخرى.
_____________________________________________________________________________________
*نشر في القدس العربي الجمعة 5 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا