جسر: متابعات:
بعد أيام معدودة على إعلان الاتفاق الأميركي – التركي، وصل عدد من الجنود الأميركيين إلى مدينة أورفا، جنوب الأناضول، للبدء بإنشاء مركز عمليات مشترك للإشراف على إقامة المنطقة الآمنة جنوبي الحدود داخل الأراضي السورية، على أن يبلغ عددهم التسعين خلال الفترة القادمة. (لنقل بين قوسين إن وجود جنود أميركيين على الأراضي التركية ليس بالأمر المرحب به في الرأي العام التركي. ومعروفة واقعة رفض البرلمان التركي انطلاق عمليات عسكرية من أراضيها باتجاه العراق في العام 2003، وهو ما لم يغفره العسكريون الأميركيون لتركيا إلى اليوم) سيشرف هذا المركز، وفقاً لما أعلن من بنود الاتفاق، على تسيير الدوريات المشتركة الأميركية – التركية التي ستقوم بمهامها في “النطاق الأول” من المنطقة العازلة، وهو خط ملاصق للحدود بعمق 5 كم، وفقاً لخبر صحيفة “خبر ترك” الإلكترونية.
وفقاً للخبر نفسه الذي لم تكذّبه المراجع التركية المعنية، إلى اليوم، اتفق الطرفان الأميركي والتركي على منطقة آمنة من ثلاثة نطاقات، الأول بعمق 5 كم يكون خالياً من عناصر “وحدات الحماية” الكردية بصورة تامة؛ والثاني بعمق 9كم يوجد فيها عناصر “الوحدات” على أن تسحب منهم الأسلحة الثقيلة التي يحتاج استخدامها إلى أكثر من شخص واحد، ولا يوجد فيها الجيش التركي؛ والثالث بعمق 4 كم كـ”عمق إضافي” تشمله مراقبة جوية من قبل طائرات مسيرة من دون طيار تركية وأميركية، بعضها مسلح وبعضها غير مسلح. على أن تبقى الدوريات التركية خارج المراكز المأهولة من مدن وبلدات وقرى تناط إدارتها بمجالس عسكرية محلية وقوات أميركية.
تقول مصادر “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) إنها شاركت في المفاوضات الأميركية – التركية بصورة غير مباشرة عن طريق الوفد الأميركي. ويلاحظ أن العمق المحدد لوجود قوات تركية في النطاق الأول هو 5 كم. وهو نفس العمق الذي سبق واقترحته “قسد” على تركيا بوساطة الأميركيين. يمكن القول، بكلمات أخرى، إن الأميركيين هم الطرف الذي أملى شروطه على الأتراك لتجنب اجتياح تركي سيضطر معه الأميركيون إلى مواجهتهم، وهي مواجهة لا يريدها الطرفان. ومن المحتمل أن التصريحات التصعيدية من أردوغان ووزيري الخارجية والدفاع في حكومته، بعد أيام على إعلان الاتفاق، ربما كانت من باب التغطية على الصفقة التي كانت دون الطموحات التركية بكثير. سنرى، فيما تبقى من شهر آب، مدى جدية أردوغان في توعده بانتصارات عسكرية جديدة تضاف إلى سلسلة الانتصارات التاريخية التي حدثت في شهر آب.
عموماً فترة الحماسة، في الصحافة الموالية، بشأن توغل عسكري جديد في شرقي نهر الفرات بعد تسرب تفاصيل اتفاق أنقرة في 7 من آب المذكورة أعلاه. هناك شعور عام بأن الأميركيين فرضوا على تركيا شروطهم وجعلوها تتراجع عن مشروع الغزو الأحادي الذي كانت أنقرة تهدد به.
أما في بعض الإعلام المعارض، وبخاصة المقرب من الحركة السياسية الكردية، فهناك بصيص تفاؤل يتجاوز موضوع الصراع حول شرقي الفرات إلى استعادة مسار السلام الداخلي بين تركيا وكردها (لنسجل، بين قوسين، أن ناطقاً باسم حزب الشعوب الديموقراطي أعلن تأييد الحزب لاتفاق أنقرة) ينطلق هذا التفاؤل الحذر من انسداد الأفق السياسي أمام الحكومة التي دخلت، بعد انتخابات إسطنبول في 23 من حزيران، طور الانحدار، وبالاستثمار في مؤشر قوي لكنه غامض هو دور عبد الله أوجلان السياسي الذي عاد إلى المشهد منذ ثلاثة أشهر.
وكانت آخر ظهورات زعيم حزب العمال الكردستاني، الأسير في جزيرة إيمرالي، هو رسالة منه تزامنت مع مفاوضات الوفدين التركي والأميركي في أنقرة، قال فيها إنه “قادر على وقف الصراع في غضون أسبوع واحد” وفهم كلامه على أنه يعني الداخل التركي بقدر ما يعني شرقي الفرات أيضاً. علينا ألا ننسى أن أي ظهور لأوجلان، وأي رسالة منه، إنما يتمان بموافقة السلطة في تركيا، وهو ما يعني أن لدى الحكومة ما تريد قوله، وهي لا تريد قوله مباشرةً بل عن طريق أوجلان، فهو الطريق المجدي في الموضوع الكردي من وجهة نظرها.
يدور في الكواليس أن أوجلان بصدد إعلان مهم سيطلقه من سجنه، في مطلع شهر أيلول القادم، يدعو فيه حزب العمال الكردستاني إلى التخلي عن السلاح. مقابل ماذا؟ هذا هو السؤال الذي سيبقى معلقاً في الوقت الحالي. الواقع أن الحكومة التركية، أو لنقل الرئيس أردوغان، يريدان من حزب العمال الكردستاني إلقاء سلاحه بلا قيد أو شرط، ليتسنى لهما إعلان “الانتصار على الإرهاب” ومن ثم تقديم بعض “العطاءات” لكرد تركيا من موقع المقتدر الذي يحق له وحده تقدير حجمها، وليس عن طريق مفاوضات بين طرفين متساويين يصلان إلى صفقة يقدم فيها كل طرف تنازلات للطرف الآخر، وبصورة خاصة دون وجود طرف ثالث محايد وضامن. فهل يكون الاتفاق بين أوجلان وأنقرة قائماً على صفقة لن يتم الإعلان إلا عن شطرها المتعلق بإلقاء السلاح، مع إبقاء الشطر المتعلق بتنازلات الحكومة التركية طي الكتمان لكي يستطيع أردوغان تسويقها لدى الرأي العام القومي بسهولة.
تتحدث بعض التحليلات في الصحافة التركية أن اتفاق أنقرة، في حال تنفيذه، سيكون بمثابة اعتراف تركي بالوضع القائم شرقي نهر الفرات، بعد حصولها على النطاق العازل بعمق 5 كم. وهو تحليل معقول، لأن تنفيذ الاتفاق يعني أن “الهواجس الأمنية لتركيا” تمت تلبيتها ولم يعد هناك أي خطر يهدد الأمن القومي التركي من وجهة نظر أنقرة. وهكذا تصبح القوات التركية مجاورة لقوات حماية الشعب الموجودة في النطاق (ب) منزوع السلاح الثقيل. وهو بمثابة اعتراف غير معلن بـ”الإدارة الذاتية الديموقراطية” التي يهيمن عليها حزب الاتحاد الديموقراطي. ومن السيناريوهات المتداولة، هنا، أن واشنطن بصدد إجراء مزيد من “الفرمتة” على الحزب الكردي وقواته “الحماية الشعبية” بما يخفف من صفتها الكردية، بحيث تتيح لأنقرة التعايش مع الكيانية القائمة شرقي نهر الفرات.
أما في إطار العلاقات التركية الأميركية التي تنغصها مشكلات كثيرة غير مشكلة الصراع على شرقي الفرات، فقد برز رأي طريف، في أحد الصحف المقربة من الحكومة، يقول إن سبب موافقة تركيا على اتفاق أنقرة إنما هو رغبتها في مساعدة الرئيس ترمب على الفوز بفترة رئاسية ثانية، كمقابل للفتات إيجابية كثيرة قدمها ترمب لأردوغان، سواء بتأجيل فرض العقوبات على تركيا بسبب صفقة الصواريخ الروسية، أو بإطلاق سراح نائب رئيس بنك هلك التركي الحكومي، أو بتبريره المتكرر للجوء تركيا إلى شراء الصواريخ الروسية. ولم لا؟ فمن غير المستبعد أن تختار أنقرة “الشيطان الذي تعرفه بدلاً من ذاك الذي لا تعرفه” رئيساً في البيت الأبيض.
نقطة أخيرة: إلى أين سترحل تركيا لاجئيها السوريين إذا كانت المنطقة التي ستخضع لإشرافها، بالاشتراك مع القوات الأميركية، تقتصر على عمق 5 كم؟
موقع تلفزيون سوريا ١٩ آب/اغسطس ٢٠٩