جسر: رأي:
ما دفعني لكتابة هذه السطور والعودة تاريخياً لذكر هذه الحقائق هو مظاهرات السوريين الأخيرة في الجولان المحتل وتحديداً في قرية مجدل شمس، الذين طالبوا بإسقاط النظام السوري معربين عن دعمهم وتضامنهم مع الشعب السوري الذي يعاني منذ عدة سنوات تحت حكم آل الأسد. عرّت مظاهرات الجولان نظام الأسد الذي يدّعي المقاومة والممانعة منذ سنوات، كما فعلت مظاهرات السويداء الأخيرة التي كذّبت ادعائه “حماية الأقليات”.
تاريخياً -كما هو معروف للجميع- شهد الجيش السوري أواخر عام 1959 تغييرات جذرية أثارت العديد من التساؤلات من قبل اللجنة الخماسية لحزب البعث المؤلفة من: صلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران وعبد الكريم الجندي وأحمد المير، وقد سُرِّح بموجب هذه التغييرات كل الضباط الأكفاء. واستمرت هذه التسريحات حتى بعد وصول حزب البعث للسلطة في العام 1963، وهو ما نتج عنه تسريح أكثر من 400 ضابط كما روى العديد من الضباط الذين شهدوا تلك المرحلة بكل تفاصيلها وحيثياتها.
منذ ذلك الوقت وسورية تعيش في كنف الدولة المخابراتية الأمنية، ففي الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تتجسس على مراسلات الجيش السوري، لم يكن شغل بال أجهزة المخابرات السورية إلا معرفة ولاء ضباط الجيش، ضاربة عرض الحائط بكل ما يدور خارج سورية من أحداثٍ جسام.
في تلك الفترة كان هناك جاسوس إسرائيلي اسمه إيلي كوهين استطاع بناء علاقات قوية مع عدد كبير من ضباط الجيش السوري، حتى اكتُشِف أمره في العام 1965 ، ولكن وفي نفس الوقت كان هناك حدث جلل يمر بشكل سري بعيداً عن أعين الجميع نتيجة انشغال الرأي العام بقصة هذا الجاسوس الإسرائيلي وتفاصيل إعدامه، حيث كان هناك مراسلات سرية بين حافظ الأسد الذي كان عضواً في اللجنة العسكرية لحزب البعث آنذاك مع السفارة البريطانية في دمشق لترتيب لقاء سري بين الأسد ووزير المستعمرات البريطانية آلورد تومسون، وفي نفس هذه الفترة الزمنية التي جرت فيها المحادثات انتُخِب حافظ الأسد رئيساً للجنة العسكرية، وبالفعل حدث اللقاء السري بين حافظ الأسد و تومسون، بالإضافة إلى لقاء حافظ الأسد بقائد سلاح الجو البريطاني[1].
تومسون الذي أكد لحافظ الأسد بأن “حزب العمال البريطاني يُسيطر الآن على الشرق الأوسط بوسائل عديدة دبلوماسية وعسكرية”، أكد للأسد أيضاً أن “إسرائيل أصبحت حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها”.
كل هذه الأحداث المثيرة سبقت حرب حزيران 1967 أو ما يُعرف بحرب الأيام الستة التي استطاعت بموجبها إسرائيل احتلال الجولان في ظروف مشبوهة ما زالك تُثير العديد من التساؤلات إلى يومنا هذا. فبعد إذاعة البيان العسكري المشهور رقم (66) الذي حمل توقيع حافظ الأسد في ذاك الوقت الذي كان يشغل فيه منصب وزير الدفاع، وفيه ذكر أن القوات الإسرائيلية استولت على محافظة القنيطرة بعد قتال عنيف، معلناً انسحاب الجيش السوري من محافظة القنيطرة بشكل كامل وبظروف غامضة، بل على العكس تماماً حُوكم بتهمة عدم الانصياع للأوامر كل من بقي صامداً ورافضاً للانسحاب من خط الجبهة، وهو ما ذكره سامي الجندي سفير سورية السابق لدى فرنسا في تلك الفترة في مذكراته بالقول مستغرباً أن “الجولان أُخلي من بعض سكانه قبل بدأ الهجوم الإسرائيلي واستمر هذا الإخلاء إلى ما بعد الهجوم”، كما يذكر الكثير من الشهود الذين عاصروا تلك الفترة أنه لحظة إعلان البيان لم يكن هناك أي جندي إسرائيلي في محافظة القنيطرة.
كما رفض حافظ الأسد طلب كل من مصر والأردن وتحديداً القيادة العسكرية المشتركة المُشكّلة على عجل قبل أيام قليلة من بدء الحرب، وفحوى الطلب تخفيف الطيران السوري الضغط عليهم من خلال تنفيذ طلعاتٍ جوية على مطارات العدو، إلا أن الأسد اكتفى بالقول: “طيراننا في مهمة تدريبية”، وذلك من خلال برقية رسمية[2]، ووفق ما يذكر العديد من الخبراء العسكريين لو أن الطيران السوري نفّذ طلعات جوية فوق إسرائيل بمشاركة الطيران العراقي والأردني، لاستطاع تدمير سلاح الجو الإسرائيلي أو تحييده على الأقل، ولكن يبدو أن الإسرائيليين كانوا مطمئنين إلى الجبهة السورية، وهذا ما تؤكده مذكرات إسحاق رابين، بالقول: إن “النظام السوري بقي متفرجاً وامتنع عن تقديم المساعدات لكل من مصر والأردن، وهو الذي قام بإشعال الحريق!!”[3].
وبعد انتهاء الحرب قام حافظ الأسد ومن معه بتصفية جميع من كان شاهداً على تصرفاته المشبوهة والتي نتج عنها سقوط الجولان، وبقي حافظ مستفرداً بالسلطة بل تخلّص من رفاق دربه قبل أعدائه واحداً تلو الآخر، وصولاً إلى لقائه المطول بوزير خارجية أمريكا في ذاك الوقت كسينجر في العام 1974، والتي سبقها توقيع النظام السوري لاتفاقية الهدنة وفصل القوات بعد انتهاء ما يُسمى “حرب تشرين التحريرية”، وفيها بقي الأسد محافظاً على حدود آمنة مطمئنة لجبهة الجولان التي لم تُطلق فيها أي طلقة منذ ذلك الوقت، وصولاً إلى الأسد الابن.
الجولان المهمة لإسرائيل دينياً وجغرافياً إضافة إلى غناها بالموارد الطبيعية، يبدو أن الاستغناء عنها وحماية حدودها وإخضاع شعب سورية وحكمه بالحديد والنار وتهميشه في معادلة الصراع مع إسرائيل كان ثمناً لبقاء آل الأسد في السلطة لأكثر من خمسة عقود ، وهذا ما تؤكده تصريحات رامي مخلوف لصحيفة الـ The New York Timesوالتي حذر فيها من البديل القادم لحكام سورية الذين وصفهم “بالسلفيين”، كما ذكر فيها أن “أمن سورية من أمن إسرائيل”[4]، وفي هذه التصريحات رسالة واضحة وصريحة للجميع وتحديداً إلى إسرائيل بأن أي تغيير قادم في شكل الحكم في سورية يعني حكماً ديمقراطياً أي حكم الشعب بنفسه، كما يعني وجود تنمية حقيقة في سورية التي تمتلك العديد من الثروات والمقومات التي تجعلها دولة متقدمة، على الرغم من أنها عانت الويلات بعد استلام حزب البعث وآل الأسد السلطة، كما أن الحكم الديمقراطي في سورية يعني وصول شخصيات لا تتوافق طموحاتهم مع خطط إسرائيل ورغباتها الاستعمارية، ولكن يبدو أن لعنة الجغرافيا ووجود إسرائيل بصفتها دولة حدودية لسورية، هو ما أوقف أي تغيير ديمقراطي غير مضمون النتائج.
سورية التي قد تعاني مستقبلاً فترات طويلة من عدم الاستقرار أيضاً في ظل غياب أي حل سياسي يلوح في الأفق نتيجة تعقد المشهد بشكل غير متوقع وبسبب عدم حصول أي توافق دولي حول مستقبلها، وهي التي شهدت ولا تزال تشهد دماراً واسعاً في البنية التحتية بسبب إصرار النظام السوري على الحل العسكري منذ البداية واستخدام الأسلحة الثقيلة والبراميل وصورايخ السكود التي يبدو أنها كانت معدة مسبقاً لهذه المعركة الداخلية بالتحديد وليس لتحرير الجولان. فضلاً عن أن الاقتصاد السوري يشهد انهياراً غير مسبوق، وأخيراً الوجود العسكري لعدة دول داخل الأراضي السوري، حيث إن الأسد سلّم الجولان، ولكن الابن لا يزالُ مصرّاً على التفريط بكامل الأراضي السورية من أجل البقاء بالحكم، فكيف ستنتهي هذه المأساة لشعبٍ يعيش أكثر من نصف سكانه ما بين نازح ولاجئ؟ كل ما يحلم فيه هو العيش بكرامة!
*محمود الحسين حاصل على درجة الماجستير في إدارة النزاع والعمل الإنساني، عمل كمنسق ميداني وأخصائي مراقبة وتقييم في العمل الإنساني لعدة منظمات دولية.
[1] هذا ما ذكرته الوثيقة المسربة المنشورة في قناة الجزيرة، فهذه المعلومة بالإضافة إلى بعض التفاصيل الواردة في هذا المقال اقتبستها عن برنامج وثائقي لقناة الجزيرة الفضائية، ورد فيها الكثير من المعلومات المهمة عن تفاصيل سقوط الجولان، (هضبة الجولان سقطت أم سُلمت)، قناة الجزيرة، https://bit.ly/3dkbHv3
[2] ميشيل كيلو، الجولان في السياسات الأسدية، ضمن كتاب الجولان السوري المنسي وموقعه في سورية المستقبل 2017
[3] يذكر السيد خليل مصطفى في كتابه (سقوط الجولان) أن جبهة الجولان كان من الممكن أن تصمد لفترة طويلة بسبب وعورة أراضيها وبسبب التحصينات العسكرية الكبيرة المبنية مسبقاً؛ كالخنادق والمراصد وحقول الألغام والملاجئ وأسلوب التحصين والمعدات والتجهيزات العسكرية، إلا أن الأسد ورّط جمال عبد الناصر بشكل مفاجئ في هذه الحرب بأن حشوداً إسرائيلية على جبهة الجولان، ليمتنع عن المشاركة في القتال بخيانة واضحة من قبل حافظ الأسد، وكل من قاتل ورفض الانسحاب لم يكن إلا مقاومة بطولية من أفراد عسكريين عوقبوا لاحقاً، وهذا ما يؤكده خليل مصطفى أن “خطة الهجوم لم تكن إلا مسرحية لتبرير سحب القوات من مواقعها”.
[4] Syrian elite to fight protest to the end, The New York Times, May 2011, https://nyti.ms/37Ry2iz