جسر: نص:
أنا حسن..
وأمي تحبُّني أكثر من أخي التوأم حسين..
القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء، الحبُّ قسمة الله، وكل شيء قسمته، يلام الإنسان فيما يملك، ولا يلام فيما يملك الله ولا يملك، السبب أنني الجريح وأخي التوأم هو الصحيح. بين ولادتينا ساعة، وسمعت أمي تقول مرّة إنها تلقت ضربة على خاصرتها، ربما تعثَّرت بحرف الطاولة وهي تعبر، ويبدو أنَّ أحدنا نال تلك اللطمة، فصار أقرب، وصار الناجي منها أبعد، أو أنَّ الناجي من الضربة صار صحيحاً، والمصاب صار عانياً، ويحتاج إلى مواساة.
وصلت إلى البيت في حلب قادماً من دمشق بعد غياب طويل، الكهرباء مقطوعة في الحي، قرعتُ الباب، فسألت أمي:
مين؟
أجبت من وراء الباب في العتمة: أنا يامو.
نحن توأم متطابق، حتى أمي لا تميّز بيننا، تحتاج أمي إلى بصمتين حتى تميّزنا من بعضنا، بصمة السمع وبصمة البصر، أريد أن أقول إنه لا معنى لذكر انقطاع الكهرباء في هذه القصة، فأمي فقدت بصرها بالسكّر، سرق السكّر منها بصرها، الصواب أنَّ الحبَّ سرق نور حبيبتيها، وكانت تقول عن ابنيها: الحبيبان. فتحت أمي الباب، ونظرت بأذنيها إليَّ في تلك العتمة المضاعفة، عتمة الشوق، وعتمة السكّر، دخلتُ، فجعلت تعاتبني على تأخري، وهي تظن أنّي حسين، وسألتْ عن الكوسا وبقية الأغراض، فأدركتُ أنها لم تميّزني، وكانت أحياناً تتوه بيننا فتشمُّنا، ويمكن أن أتذكر قصة مشابهة من الإسرائيليات.
ذلك أنَّ النبي إسحاق تزوج امرأة فحملت بغلامين في بطن، فلما أرادت أن تضعهما اقتتل الغلامان في بطنها، فأراد يعقوب أن يخرج قبل عيص، فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لأعترضن في بطن أمي ولأقتلنّها، فتأخر يعقوب، وخرج عيص قبله، وأخذ يعقوب بعقب عيص، فخرج فسميّ عيصاً لأنه عصى، وخرج قبل يعقوب، وسميّ يعقوب، لأنه خرج آخذاً بعقب عيص، وكان يعقوب أكبرهما في البطن، ولكن عيصاً خرج قبله، وكبر الغلامان، فكان عيص أحبهما إلى أبيه، وكان يعقوب أحبهما إلى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فلما كبر إسحاق وعمي، قال لعيص: يا بني أطعمني لحم صيد، واقترب مني أدعو لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلاً أشعر، وكان يعقوب رجلاً أجرد، فخرج عيص يطلب الصيد، وسمعتْ أمه الكلام، فقالت ليعقوب: يا بنيّ، اذهب إلى الغنم، فاذبح منها شاة ثم اشوِها، والبس جلدها وقدمها إلى أبيك، وقل له: أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كُلْ، قال: من أنت؟
قال: أنا ابنك عيص.
فمسَّه، فقال: المسُّ مسُّ عيص، والريح ريح يعقوب.
والقصة تقول إنَّ الأبَّ يفضل ابناً على ابن، والأمَّ كذلك، وكان اسحاق قد فقد بصره من السكّر أيضاً، وإنَّ الكهرباء كانت مقطوعة عندما منح إسحاق البركة لابنه يعقوب، فحرمها عيص المغدور.
أدركتُ أنها تظنُّ أنّي حسين، التشابه بيننا شبه مطلق، لا يعرفه سوى خبير بوليسي، لا يعرفه الخبير إلا بعد “فيش وتشبيه” كما يقولون في الأفلام المصرية، نفس الصوت، وقد وقعت وقائع بيني وبين أخي تشيب لها الولدان، فقلت له: إما أن أرحل أو ترحل، هذه المدينة لا تسعنا نحن الاثنين، ثم رحلتُ ورحل أيضاً.
جلستُ أمامها في العتمتين، في المحبسين، محبسا أبي العلاء المعري، فسألتني وهي تشمُّ جلد الهواء مثل الخلد عن سبب تأخري.
طاب لي أن أركب شخصية أخي حسين: قلت لها إنني سأشتري الحاجات بعد أن تعود الكهرباء، تابعتْ حديثها في العتمة وجعلت تعاتبني على كسلي، وتُثني على حسن، وشعرتُ أنها تستغرب من اختصاراتي المريبة في الأجوبة، وكنت أخاف من أن تكشف مكيدتي، ثم زفرتْ زفرة نضّاحة، وانتقلت للحديث عني، عن حسن الغائب في دمشق، وذكرتْ أنها اشتاقت لي، وأنني أطلتُ البعاد والهجر، كادتْ أن تبكي، من الشوق، فأشفقتُ عليها من عطش الحنين، وكدتُ أن أنهي المكيدة، فأنا لا أحبُّ أن أرى دموعها تنساب من حبيبتيها، ثم قالت: أنت لا تعرف قلب الأم يا حسين.
ولحسين قصة طويلة عندما سجن بتهمة إخوان مسلمين، وكانت شبهته التي اعتقل بها أنه خرج ينتعل خفّاً رياضياً، فقط تلك كانت الشبهة، وبقي ثلاثة أشهر في السجن، لم تنم فيها أمي، ولم أنم أيضاً، وقد أحكي عنها يوماً، وهي من أشد الأوقات التي مرّت عليّ في حياتي. وكأني كنت معه في السجن.
ذكرت أنَّ الكهرباء مقطوعة، ولو كان لأحد أن يميز بيننا، فهي أمي، عندما ذكرتْ أمي حسن، أشرقت الشمس في الغرفة المظلمة، وكأنها ظهيرة من صباحات الصيف، وسعدتُ بكلامها، فأنا وتوأمي أخوان نحبّ بعضنا، ونتجافى أيضاً، نحن توأم وخصمان، مثل عيص ويعقوب. قالت لي ـ وهي تظنُّ أني حسين ـ إنَّ أخي حسن سوف يعود اليوم، قلبُها يحدثّها بأن حسن سيأتي اليوم، قلبُ الأم فيه أثر من أثر الرسول، حاولتُ أن أتسلل وأن أخرج من البيت، وأن أقرع الباب وأعود هذه المرة بشخصية حسن، والكهرباء ما تزال مقطوعة، فعندي هي مبصرة، ولم أشك يوماً قط في أنها فقدت بصرها.
أشفقتُ عليها من المكيدة، واشتقتُ إلى حضنها وإلى رائحة الجنة في صدرها، وهممتُ بكشف اللعبة، كانت أمي قد اقتربت مني، ولمستني، وعاد بتلك اللمسة الضوء إلى حبيبتيها، فشهقت أمي من المفاجأة، وجعلتْ تتلمس وجهي وتشمُّ، ثم قالت ما قاله النبي إسحاق: المسُّ مسُّ حسين، والريح ريح حسن.
ثم ضمتْني بقوة، حتى كدتُ أن أذوب مثل حبَّة السكر في بحر حضنها، وحمدتْ ربها أنه استجاب لدعائها، ولم أشعر أني أسرق البركة من أخي حسين، فكنت أنا الأكبر، وأنا الأول، وأنا الذي نال تلك اللطمة على خاصرتها، فخاصرتي مازالت تؤلمني، وقلبي كذلك، ولامتني على خدعتي، وعاتبتني على قسوتي، ودعتْ لي، ولم تكن بدعاء ربها شقيّة، وأنا في حضنها، تمنيت أن تطول تلك الضمّة الرائعة، وتذكرت أني كنت في رحمها قبل عشرين سنة، تلك اللحظة التي لم أرَ مثلها إشراقاً ورحمة وحناناً وزكاة في حياتي، وفقدتُ برحيلها البركة، وضعتُ في بقاع الأرض، وفقدتُ السكّر من كل حياتي، وسقطتُ مثل أبي آدم من نعيم الجنة، وارتطمت رأسي بصخور الأرض الصلبة.