جسر : رأي
يحذّر الرئيس التركي، أردوغان، بشار الأسد من متابعة مغامرته في إدلب (شمال سورية)، والاستمرار في تجاوز الحدود المتفق عليها في اتفاقيات أستانة وسوتشي، حيث استعادت العمليات العسكرية المتلاحقة لقوات النظام المدعومة من روسيا جواً، ومن إيران برّاً، مناطق سبق واستغنت عنها روسيا (المتصرّف باسم النظام) لصالح تركيا، تحت مسمّى منطقة خفض التصعيد الرابعة، إلا أن هذا التحذير التركي الذي أخذ صيغة الإنذار المسجل، والذي يستوجب العقوبة الأكبر في نهاية شهر فبراير/ شباط الحالي، لا يبدو واسع الطيف، أي ليس مقرونا بحربٍ وشيكةٍ تجابه قوات الأسد وداعميه في آن معاً. ما يعني أن أردوغان ترك، بهذه المهلة، فرصة حقيقية لاختبار تموضع روسيا وإيران، شريكتيه في أستانة من جهة. ومن جهة مقابلة، ترك بازار المراهنات على الموقف الأميركي والأوروبي مفتوحاً أمام التوسّع الروسي والتمدّد الإيراني، والمأساة الإنسانية الكارثية لنحو ثلاثة ملايين سوري التي لن تبقى طويلاً أسيرة الحدود التركية.
لم تتأخر أوروبا، متمثلة في فرنسا وألمانيا، في ردّها على ما قد تكون الموجة الأكبر من اللاجئين الجدد، وتحرّكت باتجاه القوة الحقيقية على الأرض، موسكو التي لم تبد رداً سريعا بشأن مطلب عقد لقاء قمة رباعية لإيجاد حل سياسي، وتركت الاجتماع في باب الاحتمالات، ما يعني أنها ماضية قبل ذلك إلى تغيير خريطة الواقع الميداني عسكرياً، في وقت أعلن أردوغان عن موعد الخامس من مارس/ آذار، ولكنه مرهون بموافقة الرئيس الروسي بوتين.
وبقي الموقف الأميركي مترنحاً بين التلاعب على رغبات أردوغان في الإبقاء على إدلب تحت وصايته والرغبة في تحجيم توسع دور روسيا في المجالين، العسكري والسياسي، ما يعني أن الصمت الأميركي هو اختبار لحجم الثقة المتبادلة بين شركاء أستانة الثلاثة، ومدى قدرة هذا المسار على العودة إلى الحياة، بعد أن أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت، فهل تلغي القمة الرباعية المحتملة، والتي تعقد في غياب إيران، قمة طهران الثلاثية الإنقاذية لمسار أستانة المتهاوي تركياً؟
لم تغير روسيا تصريحاتها عن ضرورة تنفيذ اتفاقات سوتشي وأستانة، والتي نصت على تسليم الطرق الدولية للنظام M4- M5، إضافة إلى فتح الطريق الدولي من باب الهوى حتى نصيب، وقد اشتغلت على تنفيذ ذلك تباعا من دون ردات فعل عسكرية تركية من سقوط قلعة المضيق إلى خان شيخون وسهل الغاب والمعرّة وسراقب، على الرغم من الرفض الشعبي السوري، وتململ الفصائل التي تضم أبناء هذه المناطق، ما يجعل غياب التفاصيل المتفق عليها حتى الساعة مثيراً للشك، حتى التهديد التركي الحالي للنظام بضرورة انسحابه إلى خلف النقاط التركية المتفق عليها، من دون تحديد أماكن هذه النقاط، هل هي على الحدود الداخلية لإدلب المدينة، أم على حدودها الخارجية؟
والسؤال عن الأرتال العسكرية التركية التي نراها تدخل إلى المنطقة المتنازع عليها اليوم: هل هي قوات قتالية لمحاصرة الأسد، وتنفيذ تهديدات أردوغان، أم أنها قوات لتدعيم نقاط المراقبة التي يجري الحديث عن مباحثات روسية – تركية، ليتم تموضعها على جانبي الطريق جنوب الطريق M4 وشماله من جهة ما بعد النيرب حتى عين بيضا في اللاذقية، بمعنى تفعيل دور تركيا المتفق عليه في حماية الطرق الدولية، ما يفسّر انتشار النقاط التركية الكثيرة في ذلك الموقع، وانسحاب تركيا من النيرب، بعد ساعات من دخولها، حيث هي موجودة فعليا في اتفاق سوتشي لروسيا الأسد.
لا يستطيع أردوغان التراجع كلياً عن تهديده الأسد، كما لا يستطيع أن يحيّد روسيا في أي عملية تستهدف النظام في المنطقة، ما يفيد بأن مهلة الإنذار قابلة للتمديد إلى ما بعد القمة الرباعية، وهذا لا يعني خفض التصعيد، بل تصعيد الموقف بضربات نوعية علاجية ضد قوات النظام، ليس من شأنها تغيير خريطة الواقع، لكنها قد تؤدي إلى تغيير موقع النظام من حضن روسيا الآمن إلى موضع الشك في التضحية به، في أقرب عمليةٍ تفاوضيةٍ تتمكّن تركيا من إقناع الولايات المتحدة بالمشاركة فيها، سواء ببطاقة حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو نشر صواريخ الباتريوت، وهو الأمر الذي لم يقرره الرئيس الأميركي، ترامب، بعد، حتى عبر قذائفه “التويترية”.
وفي الوقت نفسه، لا تستطيع روسيا المغامرة بإنجازها السياسي، بالتقارب مع تركيا العضو المهم في “الناتو”، ولا المغامرة بمصالحها الاقتصادية معها، لكنها لن تنحو إلى ترك إدلب بعيداً عن سيطرتها، وهذا ما عناه الرئيس الروسي، بوتين، بكل تصريحاته بعودة انتشار قوات النظام على كامل الحدود السورية، ما يعني أنها ستترك الفرصة متاحة لأردوغان أن يعاقب الأسد من خلال الإبقاء على وجوده “الوقتي” في سورية، وتوقيف العمليات إلى ما قبل مناطق “درع الفرات”، وفتح معبر الحوار حول مثلث آمن للمعارضة، تضمن من خلاله المصالح التركية في سورية، إلى أن تنجز روسيا ما تريده من اتفاقٍ مع الإدارة الأميركية في ملفات أخرى، تقايض فيها على النظام السوري واستمراره، تحت ما يمكن تسميته الحل السياسي الذي لن يكون بين الأطراف السورية، على اختلاف مواقعها.
الأطراف المتصارعة في سورية وعليها، الظاهر منها والمختبئ خلف أدوار “الكومبارس”، مهزومة في إدلب، إحدى أكبر المآسي الإنسانية في العصر الحديث. وعليه، كل طرف يحاصر الآخر ويهزمه في جانب ما، لكن انتقام ضحايا هذه الانتصارات الممنوعة عن كل الأطراف، وتلك الهزائم المزينة بطعم النصر لكل المتصارعين، ستكون سبباً في إقلاق العالم على امتداد العقود المقبلة، واستمرار الفوضى السورية “غير البناءة”.
نشرت في العربي الجديد 24 شباط/فبراير2020