جسر: ثقافة:
يعتبر الطين المادة الرئيسة في معظم أعمال البناء على مر التاريخ، وله مكانة خاصة في عمارة منطقة وادي الفرات الأوسط، حتى أن معظم الباحثين الأثريين يميلون إلى وصف حضارة المنطقة بأنها “حضارة طينية”؛ وذلك تبعاً للبنى المعمارية التي يتم العثور عليها واكتشافها في المواقع الأثرية.
يتميز الطين بأنه مادة سهلة الاستعمال والخلط والتعامل، بالإضافة إلى ميزاته التي يوفرها للبناء على مر الزمن من حفظ الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف إضافة إلى سهولة تشكيله في البناء والتكيف بأشكاله حسب رغبة الصانع.
كما يعتبر الطين مادة جمالية أيضا؛ فهوقابل للرسم والتشكيل الهندسي لمختلف الأشياء المراد تشكيلها، وهذا ما جعله المادة الأولى في البناء والعمران عبر حقب زمنية متعددة. كل هذا بالإضافة إلى طبيعة المواد الأولية المتوافرة في البيئة التي تفرض نمطاً خاصاً على أسلوب العمارة والبناء فيها، حيث يشكل السكن انعكاساً لمعطيات الطبيعة والبيئة، وبما أن وادي الفرات سهل رسوبي فإن الطين غلب على العناصر المُكوّنة له، فكان استخدام الطين الأكثر شيوعاً في تصميم هياكل المباني في الحضارات السابقة.
وبيّنت الدراسات الأثرية أن الإنسان القديم الذي استوطن في منطقة الفرات الأوسط أو سواها من المناطق، بدأ بتشكيل كتل من الطين مخلوطة بقدرٍ من القش لصنع لبنات تترك في الشمس لتجف، وقد استخدمها الإنسان في بناء أقدم قرية تم اكتشافها حتى الآن في المنطقة وذلك في تل بقرص الأثري والذي يعود للألف السابع قبل الميلاد إلى الجنوب الشرقي من مدينة دير الزور على بعد 40 كيلومتراً.
لقد كان بناء القرية في بقرص وفق مخطط مسبق، وبتنظيم مدهش أيضاً، فكانت البيوت متلاصقة، وتتبع نظاماً مُوحّداً؛ حيث طُليت الجدران والأرضيات بالطين الأملس، وشكّلت العرصات والأزقة طرق المواصلات فيها، ثم تطور فن العمارة والبناء فيها عبر مراحل زمنية بعيدة. فظهرت المدن الأولى في الفرات الأوسط والتي تطلبت تشييد أسوار دفاعية عالية تم بناؤها على أساسات من الحجر الكلسي يقوم فوقها اللبن، واتخذت أشكالاً وسماكات مختلفة، فبعضها على شكل دائري وأخرى مستطيلة، حسب ما تقتضيه طبيعة المنطقة الجغرافية، وأسوار أخرى تتألف من سورين تفصل بينهما مساحة فاصلة (فصيل) للمارة أو حركة الحيوانات، أو تشغلها بساتين أو مساكن للطبقة الفقيرة، وتخترق الأسوار بوابات متقابلة تعلوها أبراج حراسة مطلية بالطين الأملس.
ومما لا شك فيه أن تطور العامل الاقتصادي التجاري أحدث تحولاً في نمط العلاقات الاجتماعية؛ فبرزت السلطة الدينية وبدأ الإنسان في تلك الفترة يتصور الحياة بطابع مثالي، حيث حفلت المعتقدات الدينية بالرموز الإلهية ومعابدها مثل معبد عشتار ونينهور ساج ونيني زازا في ماري وغيرها. وترافق ذلك مع تطور في فن البناء؛ فظهرت معابد على شكل أبنية مرتفعة وإكليلية، اتخذ بعضها الشكل الهرمي المُدرّج مثل الزقورات، وهي بناء مؤلف من عدة مصاطب، عادة ما تكون ست مصاطب، مبينة من اللبن تقع على أعلى مرتفع في المدينة ولها ثلاثة مدرجات طينية للصعود إلى المعبد في القمة.
إن تسارع عمليات التمدن أدى إلى نشوء السلطة المدنية وانفصالها عن السلطة الدينية، فحلت السلطة المدنية محل السلطة الدينية وبدأت الأبنية المرتبطة بالحكم بالظهور، وفي هذه الفترة تعدى المأوى وظيفته المرتبطة بتوفير الأمن والاستقرار إلى وظيفة حضارية من خلال التنوع في أشكاله، والتفنن في طراز البناء، فمن الطين المجفف على الشمس تم بناء القصور الفخمة وأهمها “قصر زمري ليم” في مدينة ماري الذي تبلغ مساحته هكتارين ونصف الهكتار، ويضم 306 غرف، ويتألف مدخل القصر من غرفة واحدة، تليها غرف متتالية وممرات متعرجة تفضي إلى باحة سماوية، ومن خلالها يتم الوصول إلى مختلف أقسام القصر المؤلف من باحات سماوية وقاعات لجلسات الملك وقاعة للاحتفالات الدينية ومعبد خاص بالقصر وقاعة العرش وغرف للضيوف ومكاتب الإدارة وغرف الخدم وجناح خاص لسكن أسرة الملك، كما يضم مطابخ وحمامات وغرفاً علوية، بالإضافة إلى مدرسة تحتوي على ثلاثة صفوف من المصاطب المبنية من اللبن كانت تشكل مقاعد الدراسة للطلبة.
ويعد بناء القصر بهذه الفخامة دليلاً على تطور علم الهندسة والرياضيات، حيث تم العثور على مجسمات طينية للبناء المراد تشييده، وبرع المهندسون في تصميم سقوف القصر على شكل سقف منحدر مزدوج، شكلت صفوف الأعمدة الخشبية المتقاربة دعائم مُعلّقة له تستند على عوارض خشبية لتخفيف التوتر والضغط عن الجدران المبنية من الطين.
وإضافة إلى البناء والعمران كان للطين وظائف ثقافية أخرى مثل التدوين اليومي على الرقم الطينية المُكدّسة في المكتبات وأهمها الأرشيف الملكي التابع لقصر زمري ليم.
إن تراكم الخبرات عبر العصور أدى إلى تمكن الإنسان من إدراك الطبيعة الكيميائية للطين وكيفية استخدامه والتعامل معه وحدود استعماله، وظهر ذلك في صنع قساطل فخارية استُخدمت كقنوات جر مياه عذبة إلى المنازل والمنشآت، وقنوات أخرى للصرف الصحي، بالإضافة لبعض الحجر المسحوق والمُضاف على الطينة الغضارية، حيث تم تصنيع القرميد واستخدامه في بناء الحمامات وأهمها حمامات دورا أوروبوس المبنية من القرميد، واستخدم الإسمنت الروماني كملاط بين قطع القرميد، وهو عبارة عن خليط من الجص الأبيض والأسود ومسحوق الجبس والفحم وبقايا الروث الحيواني ليكتسب بذلك الصلابة التي تقارب صلابة البيتون المستخدم في أيامنا.
ولا يزال استخدام اللبن شائعاً في محافظة دير الزور وخاصة في الأرياف ومناطق البادية لكونه ملائما لطبيعة المناخ الجاف والحار صيفاً والبارد شتاء، كما أنه قليل التكلفة، ومن خلال تجربة الأقدمين، أثبت إمكانيته في تصميم أبنية شاهقة وضخمة، صمدت أمام عوامل الزمن عبر آلاف السنين، وشكّلت معلماً حضارياً بارزاً.
ونتيجة لتجارب عديدة مؤخراً فإن النزعة العمرانية تتجه إلى استخدام الطين في المناطق الريفية أو حتى في المناطق الحضرية، لا سيما في بناء المنازل السكنية أو المرافق أو التجمعات في القرى، وربما سيحل كثقافة بناء بديلة في المستقبل، خصوصاً وأن هذه المادة لا تعتبر مادة دخيلة على الأرض، بل هي أساس المادة المكوّنة له، لكن السؤال: هل سيحل الطين مادة بديلة للمواد الحديثة الأغلى سعراً والأكثر تكلفة في سوريا، خصوصاً في مرحلة إعادة إعمار البلاد مستقبلاً، وهل سيكون السوري قادراً على بناء منزل بتكاليف رخيصة مقارنة بالمباني التي تعتمد على الحجر والإسمنت؟.