جسر:مقالات:
ذات يوم، وبعد عام من تولي الأسد الابن مكان أبيه، أثيرت في الإعلام العالمي تقارير تُذكر بمذبحة سجن تدمر، التي قتلت فيها وحدات من سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد مئات من السجناء العزل، في واقعة يندى لها الجبين.
وحين جرى الحديث عن الموقع الذي دفنت فيه جثامين الضحايا، دعت وزارة إعلام النظام صحفيين من وكالات أنباء معروفة إلى جولة في المكان، لتثبت لهم أن التقارير كاذبة، وأن كل ما يجري الحديث عنه من مذبحة ومدفن سري ليس سوى وهم، وخيال!
عملياً، لم يتم العثور حتى الآن على أدلة مادية تثبت وقوع المذبحة، كما أن السجن الذي وقعت فيه المأساة المروعة، تكفلت داعش بإزالته عن وجه الأرض، عبر تفجيره، في خطوة غير مفهومة الدوافع سوى كونها خدمة مجانية للنظام، الذي يستطيع أن ينفي ما يريد، لكنه لا يستطيع إنكار وجود سجن شهير كهذا!
تَذكُر هذه الحادثة وتفاصيلها، وخلفياتها السابقة، يجعلنا لا نستغرب إن قام النظام بمحو كل الحيثيات المادية التي توثق جرائمه، والتي ترد تفاصيلها في شهادات الشخصيات التي تقدم هذه الآونة في محكمة (كوبلنز) الألمانية، محاولاً إحالة الأمر إلى سياق من الأوهام والخيالات، التي يدعي أن معارضيه قد أصيبوا بها!
وفعلياً، بلغ السوريون في حكايات موتهم من مجازر وعمليات قتل جماعي، عتبات أبعد من الخيال، وأشد فجيعة من أي شكل عرفه الناس للموت!
لقد فاقت مآسيهم في مبانيها المُحكمة، ما عمره وسطره أشطرُ بناة التراجيديا في عالم الدراما، وصار ألمهم نشيجاً يُدوي في مغاور حيواتهم، وكما لم تفعل أقسى المرثيات المدونة على مستوى الأدب العالمي كله.
وها قد حان الوقت ليعرفوا ومعهم من يهتم من البشر، الأسلوب المروع الذي كانت تختفي عبره جثامين الثائرين، الذين اعتقلهم نظام الأسد!
فعلى حين غرة جاء الشاهد مُمَوهُ الشخصية في المحكمة، ليروي تفاصيل عمله طيلة ست سنوات ونيف، كحفار للقبور، يعمل بموجب طلبٍ من الأفرع الأمنية التابعة للنظام، لدفن عشرات الجثث التي كانت تخرج يومياً، من أقبية الموت، ومن السجون المركزية التي أمست مسالخ بشرية، وساحات للإعدام!
يحتاج السوري إلى الجسارة والقوة لكي يكمل قراءة شهادة الرجل، وسيحتاج بعد أن ينتهي لوقت طويل، كي يتخلص –إن أمكنه ذلك-من التقرحات النفسية التي ستصيبه، وهو يتماهى مع الشاهد في سرده لحكاية جمع الجثث وحشرها في البرادات المغلقة، وتركها وقتاً طويلاً، قبل أن يمضي الجلادون بها إلى حيث يتم دفنها في حفر عملاقة، تتولى بعدها بلدوزرات كبيرة ردمها بالتراب قطعة قطعة، حتى تختفي آثارها عن وجه الأرض!
“حفار القبور” الاسم الاصطلاحي الذي تداوله السوريون كتسمية للرجل الذي كان يدفن الشهداء، يبدو اسماً مضللاً، فالرجل لم يقم بحفر الأرض، بل تولى الإشراف على العملية! وقد مكنه ذلك من حفظ مئات عمليات الدفن في رأسه، لن يمل من سرده لتفاصيلها، لكن سيرتفع ضغطه مرتين، فيقرر قضاة المحكمة إيقاف فعاليته المدمرة لمن يستمع، ثم سيعاودون الكرة، فينصتون مرة أخرى للتفاصيل!
بدا الرجل وبحسب نبضات الوحدات الكبرى والصغرى في المبنى الكامل للحكاية، وكأنه قد أدمن الخطو على قطع الزجاج المتكسرة، يعلو مع الدرجات نحو الأعلى، بينما يسيل الدم من قدميه، فيترك أثراً لن ينساه كل من حضر المحاكمة، ومن قرأ شهادته خارجها!
إنه مرهق بشكل مؤبد، لا يستطيع أن يتخلص من أحمالٍ ثقيلة، كأنها بقيت على كاهليه لمئات السنين، رغم أن قدرته على الروي، وإغلاق دوائره، جعلته متمكناً من أدواته، كحفار قبور خيالي قادم من عالم القصص الأدبية المبكية، لكنه ههنا يطمح لأن يرى الجمهور شخصيته بريئة، وهي تقدم للعدالة الحكاية المسكوت عنها في سياق الجرائم الأسدية! وكأننا هنا نعثر على أعلى الذرا في النماذج المعبرة عن صناعة الشر!
كان هاملت، شخصية شكسبير الشهيرة في مسرحيته التي تنتمي لنوع “مآسي الانتقام” مصدوماً حينما رأى مهرجاً ينشد، ويرمي جمجمة شخص ميت، وهو يلعب دور حفار القبور، فقال عبارته الشهيرة: “أليس يشعر هذا الرجل بما تصنع يداه، فيغني وهو يحفر قبراً”؟
لكن صديقه هوراشيو سيجيبه بما يشبه الحكمة فيقول: “كلا. إنما اليد القليلة العمل هي التي يرهف حسها”.
وعلى النقيض من رؤية شخصيات شكسبير الشهيرة التي تردد الحِكم محاولة إخفاء هزائمها، سيرى بدر شاكر السياب الذي كان قارئاً ودارساً للأدب الإنكليزي هذه الشخصية بشكلٍ مختلف في قصيدته الشهيرة (حفّار القبور)، فهي مهزومة في واقعها، ولا تغطي ذلك بادعاء البراءة أيضاً، كما أن صلابتها التي يشير لها السياب في معلقته هذه، ستتبدد شيئاً فشيئاً، حتى تنهار الشخصية في تداعيها الذاتي لتبدأ باعترافاتها!
فيقول: “وتنفس الضوء الضئيل/ بعد اختناق بالطيوف الراعبات وبالجثام/ ثم ارتخت تلك الظلال السود وانجاب الظلام/ فانجاب عن ظل طويل/ يلقيه حفار القبور/ كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين/ وكأن حولهما هواء كان في بعض اللحود/ في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود/ كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين/ وفم كشق في جدار/ مستوحد بين الصخور الصم من أنقاض دار/ عند المساء ومقلتان تحدقان بلا بريق/ وبلا دموع في الفضاء”!
لا تستطيع محكمة (كوبلنز) أن تتحقق من رواية حفار القبور السوري، لأن مكان الجرائم الأسدية، ما زال بيد القاتل وعسكره وقواه المخابراتية والميليشيات التي تدعمه، كما أن أدوات الجريمة وهي الفروع الأمنية، ليست بمتناول يد العدالة أيضاً، ولهذا ستبدو شهادة الرجل، أشبه بقطعة سردية محكمة، تشبه تفاصيل هاملت شكسبير، وملامح الشخصية في قصيدة السياب!
ولكن، ثمة فضاء سوري عام تحتشد فيه روايات الشهود، وتتراصف المذابح والجرائم الكبرى حوله، حتى وإن لم يُدل على الضحايا بكتابات محفورة فوق شواهد على قبور واضحة!
وإلى حين تمكن السوريين من نبش الأرض، والعثور على الأدلة التي لا تقبل الشك، ستبقى سردية الموت السورية، وأصوات الضحايا أنشوطة تشتد حول عنق النظام، حتى تقتله!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا