جسر: مقالات:
منذ نحو أسبوع مرت الذكرى الخمسون لاستيلاء حافظ الأسد على السلطة في سوريا. وبعبارة واحدة يمكن القول إن تدمير سوريا بدأ منذ ذلك التاريخ، فقد استُهِدفت السياسةُ والمجتمع معاً، وعلى ذلك، لم يكن أحد من السياسيين السوريين، ولا أحد من متابعي الشأن السوري يتوقع أن يدوم حكم حافظ الأسد تلك المدة، فالشعب السوري مولع بالعمل السياسي، فما السياسة في جوهرها إلا طموح الفرد والجماعة للأفضل والأجمل، وعكس حيوية الشعب، ومن هنا فإنَّ حافظ الأسد بإغلاقه منافذ السياسة وأحزابها قد أغلق مواهب الشعب السوري، وقتل إبداعه.. اللهم إلا من أتيح له الهروب فتفتحت مواهبه خارج بلاده!
ولم يكن من هدف لانقلاب الأسد على رفاقه البعثيين غير الاستئثار بالسلطة، وكانت القيادة القطرية لحزب البعث قد فصلته بإجماع للسبب نفسه، ولأخطاء كثيرة ارتكبها، ومنها رفضه إعطاء الأوامر – كان حينئذ وزيراً للدفاع – بتغطية أجواء القوات السورية التي أرسلتها القيادة أواخر شهر أيلول دعماً للفدائيين الفلسطينيين في الأردن، ناهيكم بأقاويل دارت حول إذاعته بيان احتلال القنيطرة، قبل ساعات فكان انسحاب الجيش على نحو بائس، وجاء انقلابه بعد قرار الفصل بعدة أيام، ما يعني أنه كان مرتباً أموره داخلياً وخارجياً، وسيأتي تفصيل ذلك..
يُعَدُّ انقلاب حافظ الأسد العاشر في سلسلة الانقلابات التي حدثت في سوريا منذ انقلاب حسني الزعيم الأول في 30 آذار 1949 إلى انقلاب عبد الكريم النحلاوي في 28 أيلول 1961 الذي أعلن انفصال سوريا عن مصر مروراً بانقلاب سامي الحناوي في 14 آب 1949 إلى انقلاب العقيد أديب الشيشكلي في 19 ديسمبر 1949 إلى انقلابه الثاني في 29 نوفمبر 1951، وحتى عهد الوحدة الذي أتى في 22 شباط 1958 انقلاباً أيضاً على النظام الوطني الديمقراطي.. إذ كانت مجموعة من الضباط البعثيين الذين استندوا إلى قوتهم داخل الجيش، قد ذهبوا إلى الرئيس جمال عبد الناصر يطالبونه بالوحدة، دون أخذ رأي الدولة، أي إنهم عملياً انقلبوا عليها.. ومن هنا جاء رفض عبد الناصر.. فهؤلاء لا يمثلون الدولة السورية رسمياً، وبالتالي، هم غير مخولين بتوقيع اتفاق بهذا المحتوى والحجم، إضافة إلى شروط أخرى طلبها منهم كحل الأحزاب وعدم تدخل الجيش في السياسة فوافقوا دون تردد على أمل أن يستلموا السلطة في سوريا، ما جعلهم يبرقون إلى الرئيس شكري القوتلي الذي أرسل وزير خارجيته صلاح البيطار مفوضاً بالتوقيع على ميثاق الوحدة السورية المصرية.
والبيطار شخصية دمشقية، وثاني قيادي في حزب البعث إلى جانب ميشيل عفلق! وهو نفسه الذي وقَّع، بعد ثلاث سنوات ونصف، (عمر الوحدة) على وثيقة الانفصال. وليتسلم رئاسة الوزراء بعد الانقلاب البعثي/الوحدوي في 8 آذار 1963 لكن البعثيين غدروا بزملائهم الوحدويين إذ استبعدوهم بُعيد الانقلاب، فيما غادر صلاح البيطار الحكم، والبلاد السورية كلها بعد الانقلاب البعثي اليساري في 23 شباط 1966 الذي اتهم قيادة البعث التقليدية باليمينية! (اغتالت مخابرات حافظ الأسد البيطار في فرنسا يوم 21 تموز من عام 1980).
فما الذي جعل انقلاب حافظ الأسد الوحيد يدوم طيلة تلك المدة، ولينتهي به الأمر، على يد ابنه، إلى تدمير سوريا وتهجير سكانها وتشريدهم داخلاً وخارجاً، ويقتل مقومات الوطنية فيها؟!
يمكن القول في الجواب إن ثمة أسباب عدة جعلته يستمر أهمها: أنَّ انقلابه مخطط له ومهيئة سبله على مستوى دولي وإقليمي، وأتى الأسد ليرتبه داخلياً! فعلى الصعيد الدولي كان مؤيداً من الدولتين الكبريين روسيا وأميركا على خلفية قرار مجلس الأمن رقم 242 تاريخ 22 تشرين الثاني 1967 وغايته إيقاف حرب الاستنزاف ضد إسرائيل، وإنهاء فكرة حرب التحرير الشعبية التي أطلقتها جماعة صلاح جديد اليسارية أسلوباً لاستعادة الأراضي المحتلة، وكانت الفكرة رائجة آنذاك في أنحاء الدول المستعمرة.. ولذلك رفض صلاح جديد القرار، رغم نصه، وإن بصيغة مراوغة، على انسحاب إسرائيل (من أراضٍ) احتلت خلال حرب عام 1967.. أما إقليمياً فقد أيدت المملكة العربية السعودية حافظ الأسد، ورحب به تجار دمشق، بزعم تخليصهما من بؤرة البعث “الشيوعية” كما كان يطلق على صلاح جديد ورفاقه.
وهكذا جاء حافظ الأسد، ليتعاون معه الحزب الشيوعي السوري بدفع وتأييد من الاتحاد السوفييتي، وكان الحزب يعيش أزمة داخلية أدت إلى انقسامه، بينما تصورت بعض الأحزاب الناصرية أن الأسد بديل الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان قد غادر الدنيا في 28 أيلول 1970 أي في الذكرى التاسعة للانفصال، وبعد يوم واحد من إنجازه صلحاً بين الفلسطينيين والأردنيين.
ومن أسباب استمرار الأسد أيضاً أنه استطاع أن يبني دولته العميقة من ضباط محددين في الجيش وأجهزة أمن متعددة زرعت في مفاصل الدولة كافة. وعمل على كسب ثقتهم لا بتعيينهم فحسب، بل بإطلاق يدهم في المجالات التي تطولها مراكزهم المرهوبة. كما أنه عرف كيف يمد جسوراً مع تجار دمشق الذين رحبوا به، وقد وجد أنصاره وموالاته طريقاً للشراكة معهم! وهكذا نشأ الفساد وارتبط بمصالح هؤلاء، فكان شكلاً من أشكال الحفاظ على السلطة في الدولة العميقة وملازماً لها.
أما الأهم في هذا وذاك فهو قيام “الجبهة الوطنية التقدمية” على النحو الذي قامت عليه، أي لتكون واجهة لحكم الأسد، يتظاهر بها أمام العالم وصحافته، ووفوده، بأنَّ لديه دولة ديمقراطية..! لكنها، في واقع الحال، كانت مقيدة بميثاقها الذي نصَّ بوضوح تام على كل ما يمنع أو يساعد على نموِّها وتطورها، وعلى ما يسمح لها بدور فعال في الحياة السياسة، بل أتت لتكون غطاء ناعماً لمصادرة الحياة السياسية، والإعلامية، ولمنظمات المجتمع المدني، لتحل مكانها النقابات العمالية والمهنية التي يرتبها البعث ومخابراته من الأسفل إلى الأعلى، تحت شعار “النقابية السياسية”، ومن هنا كانت أداة في يد الأسد، ولم تكن لتفعل فعلها لا في الحياة السياسية، ولا في المجتمع الذي غدا أشبه بمستنقع مغلق عن أية مياه جديدة تبعث فيه الحيوية والنشاط.. وإذا كان نصيب بعض أحزاب المعارضة الملاحقة والسجون والقتل، فإن أحزاب الجبهة تركت لتتنفس هواء فاسداً في مجتمع مسدود النوافذ والأبواب، ولتغرق في قضاياها الذاتية الصغيرة التي قادتها في النهاية إلى متوالية من الانقسامات، وهكذا باركت التوريث، ولم تحرك ساكناً حين هبَّ الشعب السوري رافعاً شعار الحرية والكرامة الإنسانية، محتجاً على ما آلت إليه الدولة من سجن كبير، وفساد شامل غير مسبوق، وتطاول على القوانين لنهب الدولة والشعب معاً.. وتخلف عام يجعل ترتيب سوريا الأخير على جدول تقارير التنمية العالمية.. ونظام مستمر في تخلفه وطغيانه تحاصره جرائمه وشعب تذوق بعض الحرية، ويصرُّ على أن ينالها كاملة..!