جسر: متابعات:
يُبيّن محمد حسان كيف تُرتّب الجماعة انبعاثها من جديد في سوريا الممَزقة.
تجمَّع الرجال والنساء، أمام مركز قوات النظام في قرية البوحمد بريف الرقة الشرقي، بعد ورود أنباء تفيد بأن مجموعة من السكان المحليين، اختُطفوا على أيدي عناصر من داعش.
كان أكثر من 60 مدنياً من بلدة معدان وقرية البوحمد، في طريقهم لجمع الكمأة في الصحراء الجنوبية لريف الرقة الشرقي عندما هاجمتهم سيارة تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، اعتقلت المجموعة الرجال وتركت النساء.
بدا أحمد، أحد الناجين من عملية الاختطاف مصدوماً من هَولِ الحادثة، تحلّق السكان حوله لمعرفة ما حدث لأقاربهم المخطوفين، تلاشى تركيزه بسبب الضجة وصَمَتَ للحظةٍ ثم قال: “لقد قتلوا ابن الوحش أمامي مع غزال الحبيطر وابن الهبل”.
بمجرد أن ينطق أحمد اسم غزال الحبيطار، تصدح صرخات من امرأة في الخمسينيات من المحتمل أن تكون والدة الشاب القتيل: ‘يا ولِيدي!’
داعش تهاجم الباحثين عن الكمأة
منذ بداية عام 2019، شهدت بادية محافظتي الرقة ودير الزور الجنوبية زيادة كبيرة في عمليات خطف المدنيين والعسكريين أثناء بحثهم عن الكمأة.
ساهم موسم الأمطار هذا العام في توافر الكمأة في البادية السورية-وهو نوع من الفطر الذي ينمو في الصحاري، بعد موسم الأمطار، ويباعُ بأسعارٍ مرتفعة.
ودفعت البطالة ونقص الوظائف، فضلاً عن كون الكمأة مصدراً جيداً للغذاء، السكانَ للبحث عنها وبيعها في الأسواق لتأمين بعض الدخل، وقد بحث آخرون عنها من باب الترفيه للهروب من الواقع المرير الذي تشهده المنطقة.
أصبحت الرحلات للبحث عن الكمأة معقدة وخطيرةـ لأن من يبحثون عنها سقطوا في شِراك مقاتلي داعش المنتشرين في البادية إلى الغرب من نهر الفرات.
وفي شباط/ فبراير وآذار/ مارس، اختطفت الجماعة أكثر من 100 شخص من الرقة ودير الزور، معظمهم من المدنيين، إلاَّ أن بينهم 20 من أفراد قوات النظام وقوات الدفاع الوطني اقتيدوا من منطقة فيضة ابن موينع جنوب مدينة الميادين.
وقد أعدم التنظيم بعض المختطفين، ولا سيّما أفراد قوات النظام، بينما لا يزال مصير الأسرى الآخرين غير معروف.
أوكار في الصحراء
اتخذ داعش من بادية الرقة ودير الزور أماكن للاختباء منذ نهاية عام 2017، بعد أن سيطرت قوات النظام على مناطق غرب الفرات في المحافظتين.
وتتركز أوكار المجموعة في المقام الأول في ثلاث مناطق في عمق الصحراء هي: الأولى في جبل بشري في الجزء الجنوبي الشرقي من الرقة؛ والثانية في منطقة الدفينة في جنوب غرب دير الزور؛ والثالثة في المنطقة الصحراوية بين تدمر والسخنة من الغرب، والمنطقة 55 من الجنوب، ومحطة التي تو (T2) من الشرق، ومنطقة فيضة ابن موينع من الشمال.
تتميز هذه المناطق بتضاريس مواتية للتخفّي، مثل الجبال والوديان والكهوف الجيرية الطبيعية شديدة العمق، بالإضافة إلى اتساع حجم المنطقة والعواصف الترابية اليومية، التي تحجب الرؤية الجوية، وتزيلُ آثار التحركات بسرعة.
يتنقَّل التنظيم في الليل بحرية تامة في مجموعات ويُسَيِّرُ الدوريات التي ترفع رايته، كما ينقل الذخيرة والإمدادات في المركبات ذات الدفع الرباعي، التي اشتراها بين عامي 2014 و2017. وفي وضح النهار، يتحرك أعضاء داعش عندما يحتاجون إلى ذلك متظاهرين بأنهم أفراد من قوات النظام أو من سكان البادية المدنيين.
من أين أتوا؟
يتمتع أفراد التنظيم في هذه الجيوب الصحراوية بالمهارات والقدرة على التأقلم مع الظروف الصحراوية القاسية، وقد كانت نواتهم معروفة باسم “قطاع الصحراء”، وكان معظمهم من سكان المناطق الصحراوية على جانبي الحدود السورية العراقية. وكان عددهم يزداد يومياً بسبب انضمام المقاتلين الفارّين من مناطق أخرى مثل المجموعات التي انسحبت من الحدود السورية اللبنانية ومن ضواحي دمشق بعد اتفاقات الإخلاء المتفق عليها مع ميليشيا حزب الله والروس طوال الأشهر الأخيرة من عام 2017.
يبلغ عدد مقاتلي داعش في الجيوب الصحراوية شرق سوريا حوالي 1000 مقاتل، بالإضافة إلى أكثر من 800 منتشرين في صحراء السويداء الشرقية.
ويتزايد عدد مقاتلي التنظيم في الصحراء زيادة حادة بعد هزيمته شرق الفرات على أيدي التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية، وقد انضم إليهم آخرون قادمون من العراق ومناطق سابقة لتنظيم داعش في سوريا. وتمثّل المنطقة فرصة للجماعة لالتقاط أنفاسها تحسُّباً للمرحلة التالية.
ملاذُ البغدادي
تنقَّلَ زعيم داعش أبو بكر البغدادي الذي تمكَّن من الفرار من المناطق الواقعة شرق الفرات، في منتصف عام 2018 بعد الحصار الذي فرضته من قبل القوات الديمقراطية السورية، بصورةٍ دورية بين صحراء الأنبار والبادية السورية، حيث يُولي المنطقة اهتماماً خاصاً بالنظر إلى التجارب السابقة للتنظيم هناك.
أعاد تنظيم داعش ترتيب نفسه في جيوب صحراوية، وجيوب في العراق، بعد أن هزمت الصحوة السنية تنظيم القاعدة في العراق قبل عقد من الزمن، ويبدو أن قادة التنظيم الحاليين يعرفون أنهم في خضمّ مرحلة صحراوية جديدة، لذا فقد استعدوا مقدَّماً، إلى جانب خطة أمنية للنشاط التنظيمي السري تحت الأرض، أو فيما أصبح يعرف اليوم باسم “المحافظات الآمنة للتنظيم.”
وأكدت مصادر أمنية عراقية، أن موقع البغدادي يتركّز بشكل رئيسي في صحراء الأنبار إلى جانب مجموعات من القياديين والمقاتلين، وأضافت المصادر أن هدف الجماعة في هذه المرحلة هو جمع أعضائها، ومحاولة إدخالهم إلى المدن لبدء مرحلة جديدة من الإجراءات الأمنية، التي تستهدف خصومها.
فشل النظام في توفير الحماية
تحاول قوات النظام السوري وحلفاؤها تنفيذ عمليات عسكرية في بادية الرقة ودير الزور لإخلائها من مقاتلي داعش.
وتتلقّى حملات قوات النظام دعم قوات الدفاع الوطني وميليشيات الحشد الشعبي التي ترغب في تأمين مواقعها في البوكمال على الحدود السورية العراقية والتي تعرّضت للهجوم بشكل متكرر من قبل عناصر داعش خلال الأيام القليلة الماضية.
وقال أحمد من دير الزور الغربي: “منحت قوات النظام السكان ثلاثة أيام لمغادرة الصحراء حتى يتمكنوا من بدء عملية عسكرية تستهدف مواقع التنظيم”.
وأضاف، “وصلت المعدّات العسكرية إلى اللواء 137 غرب دير الزور وكِلا الميادين والبوكمال شرقاً استعداداً للعملية العسكرية”.
حتى الآن، باءت جميع محاولات النظام للقضاء على الجماعة بالفشل لأسباب متنوعة، أولُّها عدم التنسيق بين قوات النظام والميليشيات المتحالفة معها في عملياتها ضد داعش، إذ يعمل كلُّ جانب لتأمين منطقة نفوذه الخاصة فقط. والسبب الثاني هو عدم مشاركة القوات الروسية في العمليات العسكرية وعدم وجود غطاء جوي للقوات المهاجمة لأسباب غير معروفة.
أمّا السبب الثالث فهو أن أوكار داعش تقع في مناطق صحراوية شاسعة والنظام غير قادر على توفير ما يكفي من الأفراد لتغطيتها.
السبب الرابع هو أن بإمكان التنظيم المناورة وتجنُّب الهجمات، من خلال التحرك المتواصل في الصحراء.
أسباب العودة وعقباتها
إن عودة الجماعة المتطرفة احتمالٌ واردٌ جداً، حتى لو لم تكن بنفس القوة التي أظهَرَتها في عام 2014، تبدو هذه الفرضية صحيحةً بشكل خاص بالنظر إلى أنّ العوامل التي تُغذّي عودة التنظيم لا تزال قائمة في سوريا، وتشمل هذه العوامل الانقسامات الطائفية والممارسات العنيفة للسلطات الحاكمة، وغياب قانون المصالحة أو الحل لإنهاء الصراع الأهلي، ناهيكَ عن الوضع الاقتصادي والمعيشي وغياب الخدمات الأساسية، ما قد يدفع الأشخاص الذين لا يؤمنون بأيديولوجية هذه الجماعة إلى العمل معها من أجل إعالة أطفالهم.
ومع ذلك، فإن الأسباب الجوهرية لعودة الجماعة تواجه العديد من العقبات التي سيتعيَّن على التنظيم مواجهتها، ويشمل ذلك حجم المناطق التي فقدتها الجماعة منذ عام 2015، ما يجعل من الصعب العودة بسهولة.
تطورت قدرات القوات السورية على مواجهة هذه الجماعات المشتتة، كذلك قُطِعَت الطرق التي تربط جيوب التنظيم بتركيا، وكانت هناك حملة دولية للضغط على أنقرة لتقييد معابر الجهاديين إلى العراق وسوريا، كما انخفضت الإيرادات منذ فقد تنظيم الدولة الإسلامية السيطرة على المناطق المنتجة للنفط في شمال وشرق سوريا وغرب العراق.
وفي الوقت نفسه، فإن السكان في المناطق التي ينشط فيها التنظيم يزدادون قُرباً من النظام -لا سيّما وأن تلك المناطق لا تحتوي سوى على الجزء الذي يدعم النظام، بعد أن أُبعِدَ معارضو النظام منها ومُنِعوا من العودة.
ردود فعل متنوعة إزاء عودة الجماعة
في المناطق التي يسيطر عليها النظام في الشمال الشرقي، هناك رأيان، الأول يرفض تماماً عودة داعش بسبب التجربة الدموية التي عانت منها المنطقة على أيديها، ويشمل مؤيدو هذا الرأي مؤيدي النظام والمعارضة، ويرجع سبب تأييد خصوم النظام لهذا الرأي إلى حقيقة أنهم يلقون باللوم على الجماعات المتطرفة في فشل الثورة السورية بتحقيق أهدافها.
أما الرأي الثاني فيرحب بعودة التنظيم، وأصحاب هذا الرأي هم أولئك الذين كانوا على ارتباط به أو الذين يؤمنون بأفكاره الدينية. خلاف ذلك، فإنهم معارضون لكل من النظام وداعش، لكنهم يعتبرون أن داعش ارتكب جرائم أقل من النظام وميليشياته.
وقد دفع هذا الانقسام المجموعة الأولى، إلى الاقتراب من النظام والانضمام إلى الميليشيات المحلية، مثل قوات الدفاع الوطني والميليشيات العشائرية، من أجل الدفاع عن مناطقهم، وضمان عدم عودة التنظيم.
يحافظ مؤيدو عودة الجماعة على التزام الصمت انتظاراً لعودتها، وتستخدم الجماعة بعضاً منهم كخلايا لعملياتها في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
وفي الوقت نفسه ترفض الأغلبية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية عودة التنظيم وتعمل عن كثب مع قوات سوريا الديمقراطية على الصعيدين العسكري والمدني. ويرى هؤلاء في قوات سوريا الديمقراطية الخيار الأفضل المتاح مقارنة بالنظام وداعش، وترتبط العلاقات الجيدة المستمرة بين السكان وقوات سوريا الديمقراطية بسياسة الأخيرة المتمثلة في تحقيق شراكة حقيقية في الإدارة وتقديم الخدمات الأساسية والضروريات المعيشية.
أمّا القلة القليلة التي ترحب بعودة داعش ضمن مناطق قوات سوريا الديمقراطية أو المناطق التي يسيطر عليها النظام فهُم أولئك الذين كانوا على ارتباط تنظيمي أو فكري بالجماعة.
وتلعب أساليب قوات سوريا الديمقراطية في التعامل مع سجناء داعش والإفراج عنهم دوراً في تحييد الكثيرين من العودة إلى التنظيم، لكن قضية الانقسامات بين هؤلاء المقاتلين ومجتمعاتهم المحلية لا تزال مفتوحة -وخاصةً أولئك الذين شاركوا في عمليات القتل، ويفتح هذا الأبوابَ أمام الانتقام في المستقبل في حال تقويض سلطة قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي في هذه المناطق بالنظر إلى أنَّ وجودهما يُنظَر إليه على أنّه الشيء الوحيد الذي يُبقي صمام الأمام لمنع الانتقام من أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية.
المصدر: شاتام هاوس