فشلت “قوات سوريا الديموقراطية” في حملتها الأخيرة لملاحقة بقايا تنظيم “الدولة الإسلامية”، في بادية ديرالزور الشرقية الشمالية. إذ لم تكن الحملة أكثر من امتداد لحرب العصابات السابقة، في الوقت الذي انتقل فيه “داعش” إلى مرحلة “الحرب اللامتماثلة”.
وكان رتل لعناصر من “داعش” قد تجول في محيط حقل التنك النفطي، المعقل الأبرز لـ”قسد” شرقي ديرالزور، قبل أيام، من دون أن يهاجمه. واكتفى الرتل باختطاف رعاة أغنام من قبيلة الشعيطات، التي يناصبها العداء، وسمح لأحدهم بالفرار للإخبار عن الواقعة. وانسحب الرتل إلى عمق الصحراء، المعروفة ببادية الروضة، على الحدود السورية العراقية.
رد فعل “قسد” كان تقليدياً، فقد جهزت حملة قوامها 4 آلاف مقاتل، انطلقت في 19 أيار/مايو، من محاور متعددة؛ مركدة جنوبي الحسكة والصور بريف ديرالزور الشمالي والحريجي والسجر وحقل العمر وحقل التنك وحقل الملح. وواكب الحملة تحليق مكثف لطيران “التحالف الدولي”، وتواصلت بشكل مستمر لنحو 20 ساعة، تم خلالها “تمشيط” مساحات واسعة. وقالت “قسد” إنها قتلت 3 عناصر من “داعش” في منطقة فليطح، واعتقلت عدداً منهم.
الصحافي السوري محمد حسان، المتخصص في منطقة شمال شرق سوريا قال لـ”المدن”، إن تنظيم “داعش” يتخذ من الصحراء مقراً له ولقيادته، ومن المحتمل وجود البغدادي شخصياً في أحد المخابئ الصحراوية. وبيّن وجود مناطق أخرى في البوادي السورية، كان قد لجأ اليها التنظيم منذ العام 2017، وبينها ترابط قوي. وهذه المناطق هي، عدا عن بادية الروضة شمالي نهر الفرات، جبل بشري في الجزء الجنوبي الشرقي من الرقة، ومنطقة الدفينة جنوب غربي ديرالزور، وفي المنطقة الصحراوية بين تدمر والسخنة من الغرب، وجنوبي المنطقة 55، وشرقي محطة T2، ومنطقة فيضة بن موينع من الشمال.
حسان قال لـ”المدن”، إن خلايا “داعش” تتنقل ليلاً بحرية تامة في الجيوب الصحراوية، وتنقل الذخيرة والإمدادات في المركبات ذات الدفع الرباعي المقتناة بين عامي 2014 و2017. وتتحرك الخلايا نهاراً عند الحاجة إلى ذلك، ويتظاهر عناصرها بأنهم أعضاء في النظام، أو مدنيون من سكان الصحراء. ويتمتع عناصر التنظيم في البادية بالمهارات والقدرة على التأقلم مع الظروف الصحراوية القاسية، إذ كانت نواتهم معروفة باسم “قطاع الصحراء”، وكان معظمهم من سكان المناطق الصحراوية على جانبي الحدود السورية العراقية. وقد ازداد عددهم اليوم بسبب التحاق الفارين بهم من مناطق أخرى في سوريا والعراق.
الخبير العسكري السوري عبدالناصر العايد، قال لـ”المدن”، إن هذه الحملة فاشلة، لعدم ادراك قادة قسد الميدانيين أنهم إزاء ما يدعى اليوم بـ”الحرب اللامتماثلة” مع تنظيم “داعش”. وذلك، بعدما انتهى طور الحرب المختلطة بين الطرفين، والتي تضم تقنيات الحرب التقليدية، وأساليب حرب العصابات. العايد أضاف: “بعد هزيمة داعش تحولت الحرب إلى ما يعرف في الادبيات العسكرية اليوم بالحرب اللامتماثلة، وهي صراع يقوم على ارغام الخصم على خوض معركة في توقيت ومكان لا يناسبه. وغالباً ما لا تجري المعركة، بل عمليات انهاك لافشال الخصم وحسب، وافشال تنظيمه السياسي أو العسكري”. ومن سمات “الحرب اللامتماثلة” أيضاً، أنه لا توجد صلة منطقية بالضرورة بين الفعل ورد الفعل، كما أنها تجري على مساحات مفتوحة وغير محدودة. وهو الفخ الذي وقعت فيه قيادة “قسد” عندما اطلقت هذه الحملة الضخمة في الصحراء، لمطاردة “داعش” الذي استفزها برتل “قد يكون مجرد تمثيلية”.
العايد أشار إلى أن “داعش” لجأ بالفعل إلى الصحراء، ولديه خطط معدة منذ زمن، لادارة عملياته منها. ويستحيل السيطرة على تلك الصحاري، لأسباب تتعلق بطبيعتها سواء لكونها منطقة شاسعة متنوعة التضاريس، أو بسبب طبيعة المناخ المتقلب جداً هناك، حيث تسود العواصف الغبارية التي تمحو أي اثر لهدف يتحرك هناك خلال بضع ساعات ما يجعل من تعقبه أمراً صعباً. هذا عدا عن قسوة التبدلات الحرارية بين الليل والنهار، صيفاً وشتاءً، إذ تبلغ درجة الحرارة احياناً نحو 52 درجة مئوية، وهو ما يعيق حركة الأفراد والآليات، بل وتحليق الطيران احياناً، وهذا بحد ذاته “عدو مجاني” تواجهه القوات التي تقاتل في الصحراء، وتلاحق افراداً أو مجموعات خفيفة متكيفة مع ظروف تلك البيئة إلى حد التماهي.
ولفت الخبير العسكري ايضاً إلى أن أخطر ما تواجهه العمليات في الصحراء، هو انكشاف المهاجمين، وهو ما جعل حملة “قسد” الأخيرة “مجانية وفاشلة”. إذا يحتاج المهاجمون إلى الآليات لقطع المسافات الكبيرة بين نقطة تمركز وأخرى، وهو ما يُعرف عسكريا بـ”الوثبات”، والتي لا تقل عن 30 كيلومتراً في حالة القتال في الصحراء. الاضطرار إلى اصطحاب آليات ضخمة لحمل الاحتياجات اللوجستية والطبية، بسبب شح الموارد الطبيعية في منطقة العمليات أو انعدامها، يفقد “التمشيط” أهميته، لافتقاده عنصر المفاجأة.
وأضاف العايد: “لكي تستطيع قسد وقوات التحالف خوض معركة الظهر المكشوف، المتمثل بحرب الصحراء، سواء في العراق أو سوريا، فإنها يجب أن تعتمد على الوسائل الحديثة للمراقبة، من أقمار صناعية وطائرات مسيرة، ومراكمة وتحليل البيانات، قبل أن تنطلق قوة محدودة لتدمير مفارز الخصم، لتدميره بدون جهد كبير وبلا ضجيج اعلامي”، إذ أنه من أهداف “داعش” في “الحرب اللامتماثلة”؛ بث رعب دائم من شبحه الخفي، وتعظيم حجمه وخطورته.
وكان تنظيم “داعش” قد أطلق تهديدات بعيد سقوط الباغوز، قال فيها إن ما سيجري لـ”قسد” بعد الباغوز هو “أخطر بكثير مما لاقته قبلها”. ويبدو أن مطلقي هذا التهديد يعلمون جيداً أنهم بصدد نوع جديد من العمليات العسكرية، التي يملكون فيها حالياً تفوقاً على خصومهم، بشكل واضح.
نقلا عن صحيفة المدن ٢٤ أيار ٢٠١٩