جسر: متابعات
من بيروت إلى بلدة بريتال البقاعية التي تبعد 75 كلم شرقي العاصمة اللبنانية بيروت، تتزاحم الأفكار بشأن المخاطر التي يمكن أن تحملها هذه الزيارة لهذه البلدة ذائعة الصيت.
وعلى جانبي الطريق وسط بلدة بريتال، تنتشر صور لبعض قتلى “حزب الله” وآخرين من المطلوبين إلى العدالة اللبنانية.
مفارقة حولت هذه البلدة المعروفة تاريخيا بأن بعض رجالاتها من مؤسسي “حزب الله” والموسومة بشائعات سرقة السيارات والخطف من أجل الفدية والتهريب وتجارة المخدرات، إلى بيئة متناقضة الانتماء، بين فكر يسميه قسم من الأهالي “مقاومة”، و”توجه خارج على القانون” حسب وصف القسم الآخر منهم.
لكن ثمة مجموعة لا يستهان بها من المتعلمين والحرفيين، ومنهم مسؤولون سابقون في “حزب الله” يرفضون توصيفهم بأي من هاتين الصفتين.
نصل إلى منزل أحد قتلى “حزب الله”، وهو من المسؤولين السابقين في الحزب، ويدعى ولاء مظلوم.
يستقبلنا نجله الأكبر علي، الثلاثيني، الذي يعتبر أحد أشهر المعتقلين في سجون “حزب الله” في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث قضى تسعة أشهر و17 يوما في أحد معتقلات الحزب في حارة حريك عام 2015 بتهمة تجارة المخدرات بين لبنان وسوريا.
لكنه ينفي صحة التهمة، ويقول إنه بريء منها وتم تلفيقها له بسبب مشاكسته وتمرده على أوامر القيادي في “حزب الله” مصطفى بدر الدين الذي قُتل في سوريا عام 2016.
يقول علي إنه تعرّض للتعذيب لدى “حزب الله” رغم أنه كان من مقاتلي الحزب، ويؤكد أن مقتل بدر الدين كان السبب خلف خروجه من سجون “حزب الله” بعدما كان بدر الدين هو الذي أمر بسجنه وفق قوله.
في الوقت الراهن يمضي علي ولاء، كما يحلو لأصدقائه مناداته، في فضح الملفات غير القانونية المتورط فيها “حزب الله” على حد تعبيره.
ومن أجل ذلك، أطلق صفحة على موقع فيسبوك باسم مستعار هو “عبير منصور” لنشر ما يصفها بـ “وثائق ووقائع” تدين مسؤولين وعناصر تابعين لـ”حزب الله” في قضايا فساد.
ويقول علي ولاء إنه يستخدم اسما مستعارا لتفادي الملاحقات القانونية التي يلجأ إليها مسؤولون وعناصر من “حزب الله” الذين يتهمهم بالفساد.
في هذا الإطار يتحدث علي ولاء عن تورط محمد جعفر قصير، الملقب بـ “ماجد” و”فادي” (اسمان عسكريان له وردا ضمن قائمة العقوبات الأميركية) بمسؤوليته عن معابر التهريب غير الشرعية بين لبنان وسوريا لصالح “حزب الله”.
تجارة المخدرات
وفي ملف صناعة وتجارة المخدرات، يتحدث عن تورط الحاج صالح والحاج سلمان، وهما مسؤولان أمنيان في حزب الله، بتغطية من النائب السابق في البرلمان اللبناني والقيادي العسكري في الحزب محمد حيدر المعروف بأبو علي حيدر (كذلك ورد اسمه ضمن قائمة العقوبات الأميركية) وهو يتولى حاليا عدة مسؤوليات بين جنوب لبنان وداخل سوريا.
أما نجل محمد حيدر، فهو متورط أيضا في عمليات تهريب مشروبات كحولية وهواتف ذكية من لبنان إلى سوريا، كما يقول علي.
ويشير علي إلى تنظيم ورعاية اللجنة الأمنية في “حزب الله” في بعلبك لمراكز دعارة.كما تعمد هذه اللجنة على تغطية وتهريب المجرمين المطلوبين للدولة اللبنانية وفق تعبيره.
ملفات خطيرة
ومن الملفات الخطيرة كما يصفها، يتحدث عن تورط “حزب الله” في إخفاء جثث عدد من قتلاه الذين سقطوا في معارك سوريا برصاص رفاقهم عن طريق الخطأ.
ولدى سؤاله عن تفاصيل، يحيلنا علي ولاء إلى صفحته على موقع فيسبوك التي كتب فيها عن ما وصفه فساد وفيق صفا، مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله، والذي بات يملك ملايين الدولارات ويضع يده على أراضي للدولة اللبنانية في منطقة الأوزاعي بالقرب من نادي الغولف في الضاحية الجنوبية لبيروت.
ويستغل وفيق صفا نفوذه في تغطية نشاطات بعض تجار السلاح ومهربي حبوب الكبتاغون (مخدرات) بالإضافة إلى تهريب بضائع عبر الخط الخاص بـ”حزب الله” في مرفأ بيروت، كما جاء في صفحة علي ولاء الذي يؤكد أن مصادر اتهاماته هم عناصر لا يزالون منتمين إلى صفوف “حزب الله”.
نواة معارضة
ليس تفصيلا عابرا تلمس توجه معارض لـ”حزب الله” في بريتال، حيث النقمة تزداد على هذا الحزب الذي شهد في أحد منازلها تصميم شعاره في أوائل الثمانينيات.
نزور المنزل المقصود، حيث يعيش محمد نجل مصمم الشعار جعفر مظلوم، المعروف بالحاج عبد الرحمن.
عند مدخل بيته، يعمل كحرفي في صناعة الحديد على تصميمٍ مصغر لبرج إيفل الفرنسي الشهير في باريس.
هو مسؤول سابق في “حزب الله”، ساعد خروجه منه على الإفراج عن مواهبه الشخصية في العزف على آلة البيانو، وكذلك الرسم.
تكاد لا تخلو غرفة الجلوس لدى محمد الأربعيني، من زوار من فئة الشباب المتعلم والطامح إلى التعبير عن رفضه لممارسات “حزب الله” الذي يشكل شبكة حماية للخارجين على القانون في البلدة ومحيطها كما يقول العنصر في الأمن الوقائي سابقا في “حزب الله” هيثم إسماعيل، الذي يحضر رسالة الدكتوراه في اللغة العربية في الجامعة اللبنانية.
ويتهم هيثم “حزب الله” بتقصّد إهمال وإفقار المنطقة كوسيلتين لدفع شبابها إلى الانخراط في صفوفه في مقابل غياب المشاريع الإنمائية للدولة اللبنانية وفق قوله.
كما يشاطره الرأي زميله السابق في “حزب الله” عباس المصري، الذي يكمل دراساته العليا في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية.
ويتحدث عن مخطط للفلتان الأمني، مسؤول عنه “حزب الله” ويهدف إلى دفع الأهالي نحو طلب الحماية منه، في حين تغيب الأجهزة الأمنية الرسمية عن القيام بواجباتها على حد تعبيره.
محمد وهيثم وعباس وغيرهم يحاولون تشكيل نواة معارضة جديدة تنطلق من بريتال إلى عموم البقاع كما يطمحون، من أجل التحرر من تسلط وهيمنة “حزب الله” الذي يصفوه بالتابع لإيران.
وهم بدأوا في سلسلة تحركات في الشارع، ستتوالى على مدى الأسابيع والأشهر المقبلة وفق تأكيدهم.
ومن الممارسات المرفوضة من قبلهم، يروي هؤلاء أن اثنين من كبار المتهمين في تجارة المخدرات في المنطقة (تحفّظا عن ذكر اسميهما)، قدما هديتين إلى الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، التماساً منه لحمايتهما.
كذلك يردد بعض الأهالي أن “حزب الله” يتلطى خلف شعار “التزم بولاية الفقيه وافعل ما شئت” لتبرير الارتكابات غير القانونية لعناصره ومسؤوليه.
من اللافت سماع مراجعة نقدية لـ”حزب الله” على لسان “مقاومين” سابقين، مثل قول هيثم إنه يرفض استخدامه هو ورفاقه كأداة ضغط من أجل تنفيذ أجندات خارجية كما حصل في حرب يوليو (تموز) عام 2006 ضد إسرائيل، وكذلك رفضه توريط لبنان بشكل عام في مغامرات وحروب خارجية من قبل “حزب الله”.
معاناة مدينة الشمس
من بريتال انتقلنا إلى مدينة بعلبك التي تبعد حوالي 85 كلم عن بيروت.هناك التقينا علي طه في مكان بعيد من أعين الرقابة الحزبية، لكنه في الوقت نفسه يُطل على القلعة الأثرية حيث لاحظنا بعض السياح من الجنسية التركية بعد رصد حواراتهم.
علي في أواخر الثلاثين من العمر، وكان مسؤولا عسكريا في ميليشيا “حزب الله”، وقاتل في سوريا حيث يحمل ندوبا لـ11 إصابة نجا منها بصعوبة من الموت المحتم في المعارك التي خاضها في إدلب وحلب والغوطة في دمشق وبلدة القصير.
تحول علي إلى ناقم على حزبه الذي تخلى عنه بعد كل ما عاناه، ويتحدث بإسهاب عن ما يصفه فساد المسؤولين في “حزب الله” في بعلبك والقرى والبلدات المحيطة.
ويقول علي إن الوضع في مدينة الشمس مرير لأن الثنائية الشيعية كما يسميها، أي “حزب الله” و”حركة أمل”، يهيمنان على مقدرات المدينة.
ويكشف علي عن صرف مبلغ يفوق مليار ليرة لبنانية من أموال بلدية بعلبك لتغطية تكلفة احتفالات حزبية لصالح “حزب الله”، الذي يسيطر على البلدية برئاسة فؤاد بلّوق.
ويذكر علي طه أن أحد المهرجانات التي مولتها بلدية بعلبك لصالح “حزب الله” كان مهرجانا أُقيم عند مدخل المدينة، وعلى الطريق الجديد المؤدي إلى بلدة عين بورضاي المجاورة.
من أجل المهرجان، تم تعبيد وتزفيت وتحضير الساحة العامة التي تمتلكها بلدية المدينة ونشر الأعلام واليافطات والشعارات الحزبية احتفالاً بالذكرى السنوية الأولى لما يسميه “حزب الله” معركة تحرير جرود بعلبك من تنظيم داعش.
وتحدث خلال هذا الاحتفال نصر الله بعد ظهر يوم الأحد في 26 أغسطس عام 2018.
وحسب علي، لا يقتصر استغلال “حزب الله” لأموال البلديات على مدينة بعلبك فحسب، بل يتعداها إلى سائر بلديات المنطقة التي يهيمن عليها.
ويشرح أن “حزب الله” أنشأ لهذه الغاية ما يُعرف بمؤسسة العمل البلدي برئاسة حسين النمر، الذي بات حاليا المسؤول التنظيمي للحزب في منطقة بعلبك ـ الهرمل.
هيمنة “حزب الله” وتسلطه يطاولان أيضا الشأن التربوي في بعلبك، حيث أجبر القطاعين الرسمي والخاص على نقل العدد الأكبر من المدارس إلى جرد المدينة، مقابل إفساح المجال أمام مدارسه الخاصة (مدارس المصطفى والمهدي) في وسط بعلبك للسيطرة على الواقع التربوي والاستفادة المالية وفق علي.
وشرح علي طه أن العدد الأكبر من المدارس في بعلبك تم ضمّها في تجمع في قرية تابعة عقاريا لبعلبك تدعى “عمشكة”، وتبعد 3 كلم عن وسط المدينة صعودا نحو الجرد، باستثناء الإبقاء على العدد القليل ومنها مدرسة البنات الرسمية التي تقع عند مدخل بعلبك، حيث تقع “ساحة الجبلي” كما يلاحظ الزائر للمدينة.
علي، الذي انشق عن “حزب الله” عام 2015 ويعمل منذ ذلك الحين في الزراعة، يتحدث أيضا عن إقدام “حزب الله” بواسطة أحد مسؤوليه ويدعى محمد مشيك على حفر آبار مياه بمحاذاة نبع البياضة في بعلبك الذي يروي أهالي وسكان المدينة وجوارها.
وتم سحب المياه وبيعها لصالح مزارعي حشيشة الكيف في المنطقة من أجل ري زراعاتهم الممنوعة، علما بأن والده يملك أسهما من الأراضي المحيطة بالنبع بموجب أوراق ثبوتية كما يقول علي.
سرقة الآثار من سوريا
من الملفات التي أثارها علي، سرقة الآثار من سوريا، ويقول إن أحد المسؤولين في “حزب الله” يتباهى بعرض مسروقاته من الآثار في منزله في بلدته في النبي شيت قضاء بعلبك.
كذلك الحال في أحد منازل مسؤول في “حزب الله” في بلدة بيت شاما مسقط رأس الوزير السابق والنائب الحالي في كتلة “حزب الله” في البرلمان اللبناني حسين الحاج حسن.
يذكر علي أيضا أنه خلال مهامه السابقة في سوريا كان يرأس مجموعة من “حزب الله” تعمل على ملاحقة السارقين والمتاجرين بالأسلحة وحبوب الكبتاغون (مخدرات) في الغوطة بدمشق.
وحسب قوله، فإن عدد الأشخاص الذين أوقفهم بلغ 80 عنصرا بعضهم من أولاد مسؤولين ومشايخ في “حزب الله”، يتحفّظ عن ذكر أسمائهم خوفاً على حياته كما يقول.
وفي قضية ملاحقة السارقين والمتاجرين بالأسلحة وبحبوب الكبتاغون (مخدرات) وإلقاء القبض عليهم في الغوطة في دمشق يوضح علي طه أن هذه المهمة كانت باجتهاد شخصي منه وليس بتكليف رسمي من قيادته في “حزب الله”، وذلك بحكم موقعه كمسؤول عسكري في تلك المنطقة.
وتسبب ذلك بنشوب خلافات مع قيادته التي كانت تعمد إلى إطلاق سراحهم بحجة أن توقيفهم جاء على خلفية تشابه أسماء، خصوصا أن بينهم أولاد مسؤولين ومشايخ في حزب الله.
ويستنتج علي أن ما حصل حينها يدخل في إطار تضارب مصالح بينه و”حزب الله” الذي كان يغطي هؤلاء المرتكبين.
ويعيد علي إلى الأذهان حادثة الكشف عن مصنع للمخدرات في أحد الأماكن الدينية (حسينية أم البنين) في حي العسيرة داخل المربع الأمني لـ”حزب الله” في بعلبك.
وكان شقيق النائب السابق في كتلة “حزب الله” حسين الموسوي متورطا، في هذا الملف ولا يزال متواريا في إيران كما يقول علي.
تدمع عينا علي من القهر والظلم الذي عاشه بسبب “حزب الله” على حد تعبيره، وبعد أن يتحدث عن تمييز مناطقي داخل “حزب الله” لصالح الحزبيين من جنوب لبنان، يختم علي طه بأن لديه في ذمة الحزب أكثر من 40 ألف دولار رواتب وتعويضات صادرها منه.
ويحاول “حزب الله” ابتزازه من خلالها للتراجع عن معارضته التي تشاركه فيها والدته، وشقيقته ربى، إلى جانب خطيبته طبعا.
رد رئيس بلدية بعلبك
رئيس بلدية بعلبك، فؤاد بلوق، نفى مزاعم صرف أموال من البلدية على احتفالات حزبية في المدينة.
وقال إن الرقم الذي يتم التداول به (ما يزيد على مليار ليرة لبنانية) غير منطقي لأن ميزانية البلدية بمجملها تبلغ 3 مليار و200 مليون ليرة، وبالتالي لا يمكن صرف أكثر من مليار على نشاطات حزبية.
رد مقرب من “حزب الله”
الباحث والكاتب السياسي فيصل عبدالساتر، الذي يعتبر نفسه مقربا من “حزب الله” وعلى معرفة وثيقة بعدد من قيادييه، يقلل من أهمية الاتهامات التي توجّه إلى الحزب خصوصا في ملفات المخدرات وتبييض الأموال وتغطية المجرمين.
ويقول إن هذه الحملة ليست بجديدة ودوافعها إما شخصية أو مرتبطة بأجندة خارجية وهدفها تشويه صورة “حزب الله”، من دون أن ينفي حصول تجاوزات تنحصر بعناصر أو مسؤولين، لكنهم لا يلزمون الحزب برمته على حد تعبيره.
ولا يعترف عبدالساتر بوجود معارضة لـ”حزب الله” داخل البيئة الشيعية، إنما أشخاص معارضين على مدار الوقت للحالة التي يمثلها هذا الحزب.
ويُقر في الوقت نفسه بهامش انتقاد أكبر في البقاع وتحديدا في منطقتي بعلبك والهرمل بسبب الحرمان الذي تعانيان منه.