جسر: متابعات
لم تحظ الحركات النسوية في سوريا بكثير من اهتمام النظام السوري، لكن الثورة السورية غيرت ذلك الحال، وجعلت من هذه الحركات- على قلتها- محط اهتمام الأسد ذاته، وعلى رأسها “حركة القبيسيات”.
وفي خطوة باتت مألوفة، اجتمع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، قبل أيام، بالعشرات من الداعيات ومعلمات القران (القبيسيات)، بهدف “تمتين المجتمع من الداخل، والتصدي للمفاهيم الخاطئة والمغلوطة التي حملتها التنظيمات الإرهابية”، وفق وكالة سانا التابعة للنظام.
القبيسيات ..نسويات مدعومات من الأسد
تُعرف الحركة، بأنها جماعة دينية إسلامية، صوفية الجذور، تقتصر العضوية فيها على النساء، وتنشط في مراكز المدن السورية، وفي دمشق وحمص على وجه الخصوص.
واكتسبت الحركة تسميتها من مؤسستها منيرة القبيسي (86 عاما)، التي تتلمذت على يد مفتي سوريا الراحل، الشيخ أحمد كفتارو، المشهور باتباعه الطريقة ” الصوفية النقشبندية”.
بدأت الحركة بالنشاط في الظل في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وبدأ نشاطها يتوسع بعد توريث كرسي الحكم لبشار الأسد، خلفا لأبيه حافظ في العام2000.
وبعيد اندلاع الثورة السورية، زادت الحركة من نشاطها، وبدأ يظهر إلى العلن، من الدروس الدينية إلى الموالد النبوية والاحتفالات، وغيرها من المناسبات الدينية والاجتماعية، الهادف إلى التعليم الديني ونشر الأخلاق الإسلامية بين فئات النساء.
ويمكن القول أن “القبيسيات” قد تحولت إلى مؤسسة دينية لها مؤسساتها وجمعياتها ومعاهدها المدعومة من النظام السوري.
البينة التنظيمية
وبيّنت دراسة صادرة عن “مركز جسور للدراسات” في العام 2017، تحت عنوان “جماعة القبيسيات..النشأة والتكوين”، التراتبية البنيوية للحركة على النحو التالي:
“الحجَّات”: وهن الطبقة الأولى والنواة المركزية والمرجعية النهائية التي تدير الجماعة وحلقاتها وتضع الخطط والبرامج وتشرف على التنفيذ العام وتُرفع إليهن التقارير وترجع إليهن الآنسات في كل شؤونهن ولا تستطيع الطالبات الوصول إليهن إلا بعد المرور بمرحلة زمنية من الالتزام مع الجماعة وتزكيات خاصة وثبات على المواظبة وظهور الولاء المطلق للجماعة.
الآنسات/ الخالات الكبيرات: وهنَّ الذراع التنفيذية للخطط والبرامج وعلى عاتقهنّ تقع مسؤولية الاستقطاب والوصول إلى الشرائح المستهدفة، وهنا تكمن سلسة تراتبية من الآنسات يتمايزن بألوان حجابهنّ من الأزرق السماوي إلى الكحلي الغامق وما بينهما من درجات.
المريدات/ التلميذات: وهنَّ القاعدة التي ترتكز عليها الجماعة في عملها، والشريحة المستهدفة، ويتم تأطيرها في حلقات تتبع كلّ حلقةٍ لآنسةٍ فيما يشبه الخليّة التنظيميّة التي تلتقي بشكلٍ دوريٍّ ويقدّم لها منهاج مدروس ومقرر من الآنسات الكبيرات أو “الحجّات” وينتقلن تصاعديًّا من آنسةٍ إلى أخرى؛ أي إلى حلقةٍ جديدة بعد تحقيق شروط معينة وإنهاء مناهج محددة.
النشأة والعلاقة مع النظام
الكاتب والباحث بشأن قضايا الجماعات والحركات الإسلامية، ماهر علوش، أشار إلى ندرة المصادر الحيادية التي تتناول حركة “القبيسيات” وغيرها من الحركات الدينية وغير الدينية، بسبب الحالة الأمنية، وطبيعة الأنظمة العربية عموما، وهو ما يفسح المجال أمام الاجتهادات من الباحثين.
وقال إنه “ليس بالضرورة أن يكون النظام السوري هو مؤسس هذه الحركة”، موضحاً أن “الأنظمة قد تستفيد من حركات وجماعات قائمة بالفعل، من خلال استيعابها، وهو النموذج الأكثر تداولا في المنطقة العربية”.
وأضاف علوش “قد يشير البعض بعين الريبة إلى نشوء “القبيسيات” تحت أنظار السلطة السورية، غير أن ذلك لا يعطي دليلاً قاطعاً، بسبب تفضيل التيارات الإسلامية الحفاظ على امتدادها في المجتمع، من خلال إقامة حبل سري مع الأنظمة، في حالة غير معلنة”.
وتابع “التصور الأقرب، هو أن نشأة القبيسيات كانت ذاتية كغيرها من الجماعات والحركات، وخضعت فيما بعد لرقابة من السلطة، وتقييمات عن تشكيلها خطرا على السلم والأمن المجتمعي، وعن كيفية الاستفادة منها”.
وعن العوامل التي دفعت إلى نشوء هذه الحركة، أشار علوش جملة من الأسباب، منها الحاجة إلى نشوء حركة دينية دعوية خاصة، تسد الخلل الحاصل في المجتمع جراء تهميش دور المرأة في المجتمع، وخصوصا في قضية التعليم، وكذلك الحاجة إلى منبر نسوي بمواجهة المنابر التي كانت سائدة في سوريا (التيارات القومية اليسارية) في حينها، والتي كانت تعتبر نفسها وصية على المرأة.
النظام مطمئن
وعن علاقتها بالنظام فيما بعد، قال علوش “يبدو أن غياب الرؤية السياسية عند القبيسيات، كان عاملاً مطمئنا للنظام، مبيناً أن النظام لم ير فيها تهديداً سياسياً، وهو ما دفعه إلى قبولها، وليس لأنها سيئة، بل لأنها لا تتعارض مع مصلحته، لأنها توجه سلوكها لإصلاح الفرد.
ومضى قائلاً “النظام يحرص على مد بعض الجسور نحو الحركات النافذة في الأوساط السنّية السورية، بحثا عن الشرعية الاجتماعية، نظراً لانتماء الأسرة الحاكمة إلى الأقلية العلوية”.
إدارة المجتمع
وتثار تساؤلات حول النفعية التي تجلبها هذه الحركة لنظام الأسد، علما بأن الحركة تزعم أن نشاطها بمنأى عن الشأن السياسي.
وفي هذا الصدد، قال الأكاديمي والباحث بشؤون الجماعات الإسلامية، عرابي عرابي، إن “الأنظمة السلطوية والاستبدادية، تحرص على إدارة المجتمعات لمنع ظهور أطراف منافسة لها في الحكم أو في إدارة المجتمع، والنظام السوري يحرص من خلال دعمه لحركة “القبيسيات” إلى إدارة المجتمع السوري بدون منافس”.
وأوضح أن النظام من أجل تحقيق ذلك، يقصي بعضها، ويطوّع أخرى، كما هو الحال مع “القبيسيات”.
وحسب عرابي، فإن النظام يهدف من خلال دعم “القبيسيات” إلى تحقيق منفعتين، وهما ضبط سلوك الأسرة السورية، على اعتبار أن المرأة هي أساسها، والثانية الاستفادة من العلاقة الجيدة التي تربط القبيسيات بالأثرياء والنخب الاقتصادية السورية، ليرفع عن كاهله الكثير من الالتزامات المجتمعية، وخصوصا تقديم المعونات للفقراء، الذين تتزايد أعدادهم بشكل كبير.
منفعة متبادلة
كما يتطلع الأسد من خلال دعمه “القبيسيات” إلى التصالح المجتمعي مع وجوده كنظام حاكم، وفق عرابي، الذي أضاف “يريد النظام القول، بأنه لم تعد هناك أي فرصة لمواجهته مجددا، لا سيما أنه نظام متدّين ومتصالح مع الإسلام”.
ويدخل في هذا السياق، الترويج لفكرة المصالحة مع النظام، وهنا يشير الباحث “إلى مبدأ الطاعة التي تعتمده القبيسيات (طاعة الشيخة).
وفي الاتجاه ذاته، أشار الباحث ماهر علوش، إلى أن من بين أحد أهم أهداف النظام من وراء احتواء حركة القبيسيات، تغيير المجتمع من الداخل، حيث تعتمد الحركة العنصر النسائي في دعوتها، وبالتالي هي تتوجه إلى مركز الأسرة، لتشكيل حالة إسلامية خاصة لها فلسفتها وقيمها الخاصة.
ومن المنافع الأخرى التي يحققها النظام من خلال القبيسيات، منع انتشار الحركات الراديكالية التي تشكل تهديدا لسلطته، وعلق بقوله “لا بد من دعم حركة معتدلة تقليدية داخل المجتمعات المحافظة، المجتمعات التي تتنافس عليها تلك الجماعات، لقطع الطريق على الجماعات الأخرى ذات البعد السياسي أو الراديكالي، كما هو الحال في السوق الاقتصادية، أي لا يريد النظام احتكار شركة واحدة (الحركات الدينية ذات البعد السياسي) للسوق”.
وفي المقابل، فإن الحركة تحصد العديد من المنافع بتقربها من النظام، موضحا أن “الحركة تستفيد إداريا وماديا من النظام، فهي تجد تساهلا من النظام في ترخيص المدارس والمؤسسات والجمعيات التابعة لها، والأهم من ذلك أن قربها من النظام يقصي الجماعات المنافسة”، وفق الباحث عرابي عرابي.
المصدر: عربي ٢١