جسر: مقالات:
والناشطون الأرمن يرصدون هذا النشاط المعادي لهم منذ زيارة أردوغان الى لبنان قبل أكثر من عشر سنوات، إذ أن الزيارة وما أعقبها من استثمار تركي في احياء “الأقليات التركية” في لبنان، خلق جواً تركياً في لبنان. بيد أن الأرمن ومحاولاتهم الدؤوبة لاحياء ذكرى المحرقة الأرمنية في لبنان، يُمثلون نقيضاً حيّاً لهذا النفوذ التركي القائم على إعادة احياء الحنين الى السلطنة العثمانية، والإيحاء للناس بأن أحوالهم كانت أكثر ازدهاراً مما هي اليوم. وأبناء الضحية، حتى استسلامهم، يُمثلون عبئاً.
ولهذا النفوذ التركي النامي، نواة اثنية وايديولوجية. النواة الإثنية تشمل طبعاً الأقلية التركمانية في الشمال والبقاع، وقد استثمرت فيها تركيا بوضوح خلال السنوات العديدة الماضية، إما من خلال مشاريع تنموية أو عبر منح جامعية ودورات ثقافية، علاوة على ندوات مُمولة عن تاريخ السلطنة العثمانية وايجابياتها. أنصار تركيا بين هؤلاء يكونون غالباً في مقدمة أي تظاهرة أو تحرك في مواجهة أعداء أنقرة وأردوغان.
كما أحيت تركيا الروابط الثقافية مع عدد من العائلات اللبنانية ذات الأصول التركية، ومنهم مهاجرون ليس بالضرورة من السلطنة، بل أيضاً نزحوا من مناطق أخرى مثل جزيرة كريت في اليونان. خلال الفترة الماضية، أحيت تركيا العلاقة مع هذه العائلات، أولاً من بوابة الجنسيات، إذ فتحت الباب أمامهم وأمام التركمان لتقديم الطلبات، وقد حصل قرابة عشرة آلاف لبناني على هذه الجنسية (9653 وفقاً لأرقام عام 2019)، وهناك حوالى 17945 ألف طلب جديد لم يُبت بأمره بعد. لكن هذه أرقام العام الماضي، سيما أننا اليوم أمام موجة جديدة من التجنيس، كما جاء على لسان وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو مطلع هذا الشهر. تركيا تنوي تجنيس دفعة جديدة من التركمان اللبنانيين.
هذه النواة الاثنية ليست يتيمة، بل يأتي فوقها تلك الأيديولوجية المرتبطة بالجو الإسلامي الاخواني في لبنان. وهذه شبكة من الجمعيات التي تدور في فلك “الجماعة الإسلامية”، الجناح اللبناني لـ”الإخوان”. لكن علاقة “الجماعة” بتركيا متشعبة، ولا تشبه ارتباط “حزب الله” بإيران مثلاً. تبقى “الجماعة”، رغم علاقاتها الوثيقة بتركيا، مجموعة سياسية-دينية لها شبكة علاقات محلية وتاريخ سياسي من الصعب اختزاله بالولاء المطلق لتركيا كما يحلو للبعض. إلا ان من الصعب أيضاً فصل الجماعة عن أي دور قد تُقرر تركيا لعبه مستقبلاً.
ذاك أن تركيا لم تتخذ الى اليوم قراراً بلعب دور سياسي فاعل في لبنان. لكن هناك مؤشرات إلى تبدل الموقف التركي. ما زالت تركيا تخطو خطوات حثيثة باتجاه توسيع رقعة حراكها التنموي في لبنان، كمثل افتتاحها قريباً المستشفى التركي في صيدا، والنقاش الحاصل لفتح جامعة في عكار. ليست هذه مشاريع خيرية، بل تأتي ضمن سلة متكاملة تلعب السياسة فيها دوراً محورياً.
والسجال التركي-الفرنسي حول لبنان يدل على هذا التغير. الفرنسيون ألمحوا الى نفوذ تركي محتمل في لبنان، في حين ربط الرئيس ايمانويل ماكرون بين الملفين اللبناني والليبي في اتصال مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، ورد عليه أردوغان.
في كلام أردوغان عن “الأخوة الأبدية” (مقارنة بالاستعمار الفرنسي القصير)، مؤشر الى اهتمام بلبنان، إذ يعي الرئيس التركي حجم التعاطف الشعبي معه في أوساط الطائفة السنية، وأيضاً مدى النفوذ الثقافي لبلاده هذه الأيام، مع تراجع الأقطاب الثقافية الأخرى في المنطقة. وهذا الكلام يتقاطع مع مصادر تتحدث عن تبدل موقع لبنان في سلم الأولويات التركية بعد تفجير بيروت وزيارة ماكرون اليها، وتربط بين هذا التبدل أيضاً وبين القدرات المستجدة مالياً لتركيا بعد اكتشاف الغاز في البحر الأسود.
في نهاية المطاف، تملك تركيا، في حال قررت الدخول الى الساحة السياسية اللبنانية، الأرضية، ولن تبدأ من الصفر. لكن طريقة التعاطي مع الأرمن وقضيتهم في لبنان، تُؤشر الى أن هذا الدور لن يكون بالهين على هذه البلاد المُنهكة، ويحمل مخاطر وجودية لما تبقى من تعددية مترهلة.
المدن ٢٤ آب/اغسطس ٢٠٢٠