راي- عبدالناصر العايد
استهدفت مليشيات إيرانية تتمركز على ضفة الفرات قرب مدينة المياذين، بالأسلحة المتوسطة والخفيفة مواقع تابعة لـ”قوات سوريا الديموقراطية” على الضفة المقابلة في بلدة ذيبان، وبدأت قوات النظام برفع السواتر الترابية في بلدة الصالحية عند مدخل ديرالزور الشمالي استعداداً لمواجهة مظاهرات الجمعة المقبلة.
وكان نشطاء في المنطقة، وبدعم معلن من “التحالف الدولي”، قد دعوا إلى مظاهرات، الجمعة المقبلة، تحت عنوان “جمعة شهداء الصالحية”، للضغط على النظام والمليشيات الايرانية للخروج من البلدات الست التي يسيطرون عليها شرقي الفرات.
ويبدو أن تياراً سياسياً نشطاً قد بدأ بالتشكل في ريف ديرالزور، تحت اسم “أحرار ديرالزور”، متخذاً من قضية اخراج النظام من شرق الفرات هدفاً له. ويحظى التيار بتأييد شعبي، ودعم من “التحالف الدولي”، وتقوده نخب من المنطقة ونشطائها. وقد اصدر بياناً، الأربعاء، قال فيه “إنهم لا يقبلون بوجود القوات الروسية ولا الايرانية على الأراضي السورية، وخاصة البلدات الست الواقعة شرق الفرات، وهي الحسينية والصالحية وحطلة ومراط ومظلوم وخشام والطابية”.
ويرفض أهل تلك البلدات العودة إليها ما لم تخرج منها مليشيات النظام والمليشيات الايرانية التي تمارس ضغوطا لإحداث تغيير ديموغرافي، ومذهبي في المنطقة.
شهور من التصعيد
منذ بضعة أشهر، تشهد محافظة ديرالزور تحركات دولية واقليمية، تصاعدت في الأسابيع الأخيرة واتضحت بعض ملامحها المحلية والاستراتيجية. وهي بالمجمل، تحوّل تلك المنطقة إلى ساحة نزاع جديد بين إيران والولايات المتحدة، بشكل رئيسي، وبين حلفائهما بشكل ثانوي.
بداية التصعيد كانت في حزيران/يونيو، عندما وصل على نحو مفاجئ وزير الدولة لشؤون الخليج العربي بوزارة الخارجية السعودية ثامر السبهان، برفقة نائب وزير الخارجيه الأميركية إلى القاعدة الأميركية في حقل العمر النفطي بديرالزور، واجتماعهما بالفاعلين المحليين من القبائل العربية هناك، ووعدهم بدعم جهود اعادة الإعمار. فيما تحدثت أنباء عن أن دوافع الزيارة الاعمق هي توطيد العلاقات مع القبائل العربية في الضفة الشرقية لنهر الفرات، لمواجهة التغلغل الايراني على ضفته الغربية، والذي بدأ منذ طرد داعش، واحتلال بلدة البوكمال الحدودية من قبل المليشيات الايرانية التي قادها بشكل مباشر قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني.
ودفع ذلك بالنظام وايران الى استدعاء نحو 100 شيخ عشيرة ووجيه، من الموالين لهم، في منطقة شرق الفرات، لاجتماع عاجل في حلب، وطلبوا منهم الوقوف في وجه المحاولة السعودية الاميركية لاستقطاب العشائر، ووصل الامر إلى الطلب منهم اطلاق حرب “مقاومة للاحتلال الاميركي والقوى الانفصالية”.
وفي آب/أغسطس، اختتم “حزب الله” تدريباً أولياً لمجموعتين من المقاتلين من ابناء العشائر العربية في الحسكة، تحت غطاء “الدفاع الوطني”، يبلغ مجموعهما 400 عنصر. وانتقى الحزب العشرات منهم، لاتباع دورات في دمشق وطهران، أي لإعدادهم ايديولوجياً وعسكرياً لمهمة ما.
وفي أواخر آب ايضاً، أعلن “الحشد العراقي” أن هجمات الطائرات المسيّرة التي قصفت مقراته في العراق انطلقت من قواعد تحت سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” في شمال سوريا.
وفي مطلع أيلول/سبتمبر، نشرت شبكة فوكس نيوز الأميركية، نقلاً عن مصادر استخباراتية تقريرا قالت فيه إن القيادة الايرانية أقرت بناء “مجمع الإمام علي” في سوريا، على أن يتم تشييده من قبل فيلق “القدس الإيراني”، على الحدود السورية العراقية. وتم قصف تلك الانشاءات في 8 أيلول/سبتمبر من قبل طائرات مجهولة الهوية. وبعد أيام قليلة، أدخل “الحشد الشعبي” العراقي ثلاث بطاريات صواريخ مضادة للطائرات إلى البوكمال، من طرز ايرانية على الأغلب.
وفي 13 ايلول/سبتمبر، انتقل التصعيد إلى المستوى الميداني المباشر، حين أعلنت مجموعة عشائرية محلية عزمها على اقتحام ريف ديرالزور الغربي وانتزاعها من الأميركيين و”قسد” التي كشفت تحقيقاتها عن وجود مخطط جدّي للعملية يتضمن مئات المتعاونين الذين جندتهم إيران ومخابرات نظام الأسد في المنطقة المستهدفة. لم يتأخر الاميركيون بالرد، وطلبوا من “قسد” دعم خروج مظاهرات كبيرة تطالب قوات النظام والمليشيات الإيرانية بالخروج من بعض القرى الواقعة شرقي الفرات، والتي بسيطرتهم عليها يحافظون على رأس جسر نحو مناطق سيطرة “قسد”.
المتظاهرون المتحمسون، تجاوزوا فكرة التظاهر قرب تلك القرى على مدخل ديرالزور الغربي، واقتحموا حواجز النظام وطردوا عناصره منها، لكن المليشيات الإيرانية عادت وأطلقت النار عليهم، لتقتل رجلين وتجرح أكثر من عشرة آخرين.
وتبع ذلك، بعد يوم واحد، هجوم لما قيل إنه لإحدى خلايا الجيش الحر السابق، على مقر مليشيا “فاطميون” على الضفة اليمنى لنهر الفرات، ما تسبب بمقتل ثلاثة عناصر منها ثأراً لقتلى المظاهرات السابقة.
أهداف التصعيد المتبادل
من الواضح أن إيران تسعى إلى فرض حالة من عدم الاستقرار تحت الأقدام الاميركية في شرق الفرات، وضربها من الأسفل، عبر الأدوات المتعددة التي تستحدثها على الأرض، لدفعها إلى الانسحاب من المنطقة. ويشبه ذلك التكتيكات ذاتها التي اتبعتها طهران في العراق. ولتتمكن من انجاز تلك المهمة، اضافة إلى جَسرِ مناطق نفوذها في غرب العراق وشرق المتوسط، تسعى طهران إلى خلق بيئة موالية لها في المجتمعات القبلية شرقي سوريا، في تلك المنطقة التي تقطع طريقها إلى المتوسط. ومن أجل استقطاب السكان هناك، تعمد إلى الاغراء المالي، والتبشير الدعوي الايديولوجي، خاصة بين القبائل التي تدعي النسبة لآل البيت، وتعمد إلى زجهم في معركة “مصير” معها. وقد تلفظ بعض اتباعها مؤخراً بعبارة “المقاومة الاسلامية”، أي بما يحقق لها اقصى استفادة حتى من المشاعر الدينية المناهضة للغرب لدى الاسلاميين السنّة ذاتهم، خاصة المتعاطفين منهم مع “القاعدة” و”داعش”. وأخيراً العزف على الشرخ القومي العربي-الكردي شرقي الفرات لحصد مزيد من الحلفاء.
أما القوات الأميركية فهي تكتفي حتى اليوم بالمتابعة الاستخباراتية الدقيقة، والاعتماد على ذراعها الجوية القوية، للإجهاز على أي تحرك، لكن هذه الذراع باتت مهددة مع وصول منظومات الدفاع الجوي إلى غرب الفرات، وستكون مهددة أكثر فيما لو مررت ايران بضعة صواريخ محمولة على الكتف إلى مناطق قريبة من أماكن تمركز الحوامات الاميركية شرقي الفرات. إذا أن خلايا “داعش” المتخفية على الأقل سترحب باستخدامها، وستوقع خسائر مؤلمة بقوات واشنطن، وسترتفع فرص مغادرتها بالتزامن مع ارتفاع عدد النعوش التي تصل إلى الولايات المتحدة.
من حليف من في هذا الصراع؟
على الأرض، الروس ونظام الأسد حلفاء إيران في تلك المعركة. وفيما تنتشر قوات النظام هناك، وتأتمر بالأوامر الإيرانية، فإن القوات الروسية تحتفظ بنقاط لها في كل من مدن ديرالزور والمياذين والبوكمال، وهي حصون حامية للمليشيات الإيرانية وتضمن عدم شن حرب اجتياح لها من شرق الفرات إلى غربه.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن موقف الطرف الكردي مشكوك فيه. وجاء لجوء الأميركيين إلى القبائل العربية بعد تلكؤ قيادات “قسد” بالانخراط في “معركة ليست معركتهم” مع إيران ونظام الأسد. إلا أن تصاعد التحضيرات الأميركية لها، وبمزيد من الاعتماد على العنصر العربي، قد دفع بالأكراد اخيراً إلى اتخاذ اجراء يحول دون سحب البساط الواسع الذي تمتعوا به من خلال مشاركتهم في الحرب على “داعش”، وأبدوا مؤخراً حماسة مشوبة بالحذر، لصراع من هذا النوع. فانزلاق جوهر الصراع في مناطق سيطرتهم ليتحول من حرب على “داعش” إلى محاربة إيران، يهدد بفقدان مكاسبهم، وفقدان حليف استراتيجي كإيران، في مواجهتهم مع تركيا خصمهم التاريخي.
يتبقى أمام واشنطن في تلك المعركة السكان العرب، وهؤلاء يفضلون التحالف معها لأنها الأقوى، لكنهم لا يثقون باستمرارية موقفها، ولا بجديتها في أخذهم كحلفاء حقيقيين، سواء في معركتها ضد “داعش”، التي بدأت وتائرها بالانقلاب البطيء، ولا ضد إيران. وقد يفضل الكثيرون منهم الصمت وانتظار نتائج المعركة، بينما سيقبل آخرون من دون تردد على وضع يدهم بيد إيران وروسيا ونظام الأسد، ما لم تكن هناك تعهدات واضحة بعدم تركهم لاحقاً لوحدهم مع أي انقلاب في السياسات الأميركية. وهذه، لا يمكن أن يضمنها لأبناء القبائل العربية في شرق سوريا سوى حلفاء واشنطن العرب، فهؤلاء هم الطرف الوحيد الذي يمكنهم الوثوق به. وقد احدثت زيارة الوزير السعودي السبهان، تغييراً في المزاج المحلي لصالح الطرف الأميركي في صراعه مع إيران.
فرصة لإيران؟
الحقيقة التي لا يجب نكرانها، هي أن لإيران التي تعمل على كافة الملفات المتعلقة بالتوسع بدقّة ودأب، حظوظاً عالية جداً. وباستثناء اسرائيل لا يوجد سياسات دفاعية وأمنية ناجعة لمواجهة مخططات طهران، حتى من الجانب الأميركي، المتقلب، فالمنطقة ليست من أولوياته لولا أمن واسرائيل. وهذه يمكن أن تحلّ بصفقة تقاسم نفوذ بين تل أبيب وطهران، وعندها ستبقى الأطراف العربية بلا حصة أو نصيب. لكن هذا لا يعني أن إيران ستكسب على المدى البعيد، فهذه النفقات والكلف الباهظة، ستكون استنزافاً بلا مردودٍ مجزٍ.