فجأة اكتشفت الصحافة اللبنانية عبارة “الذئب المنفرد”، وراحت تصف بها عبد الرحمن مبسوط الذي نفذ عملية طرابلس مساء الإثنين الفائت، وأدت إلى مقتل أربع عناصر من الجيش والشرطة. “ذئب منفرد” لأنه هو من خطط ومن نفذ، ولم يكن جزءاً من شبكة أو من تنظيم، و”ذئب منفرد” لأنه بحسب المدير العام لقوى الأمن الداخلي عماد عثمان كان يعاني من اضطرابات نفسية، وذئب منفرد لأن الوصف هذا يعطي لحكايته بعداً تراجيدياً، وغموضاً غير مفسر.
والحال أن مبسوط ليس “ذئباً منفرداً” على الإطلاق، اذا ما أعدنا العبارة إلى سياق تشكلها. “الذئب المنفرد” إرهابي من نوعٍ آخر تماماً. إرهابي فرد فعلاً، جند نفسه بعد عملية تحولٍ داخلية، حصلت في بيئة يعيش فيها غربة مزدوجة. هو غريب في البلد الذي ولد فيه، وغريب في البلد الذي قدم منه أهله. وانفراد الـ”ذئب” هنا لم ينجم عن خيارٍ بالانغماس في النفس، انما هو وليد شقاق نفسي عميق. “الذئب المنفرد” هو في الغالب أوروبي من أصول شرقية، يتمتع بمعارف تقنية كبيرة، وهو مسلم طارئ على الإسلام، لكن أوروبيته ناقصة وغير ناجزة. وفي الغالب هو في محيط الطبقة المتوسطة، وجامعي ولا يجيد العربية. وهو إذ يُنفذ عمله الإرهابي، يعلن للمرة الأولى عن قناعاته وعن التحولات التي أصابته. فحين نفذ عمر متين عمليته في أورلاندو كانت المرة الأولى التي يكتشف فيها الجميع من حوله ميوله، لا بل أن الشاب الأميركي من أصل أفغاني استهدف نادياً للمثليين لأنه لا يخلو من ميول مثلية كرهها في نفسه وألصق أسبابها بـ”الغرب الكافر”. ومثله كثيرون لطالما شهدت هوياتهم النفسية اضطرابات أحدثها قلق العيش الحديث والتعليم الحديث وما يرتبان من علاقات ومن فردية ومن وحدة.
ما رشح من سيرة الشاب حتى الآن يؤشر كله إلى انتمائه إلى ضائقة محلية انتمى إليها كل من سبقوه إلى “الجهاد” وإلى الإرهاب. عائلة مدقعة الفقر، ومفككة. علاقة متوترة مع والد بعيد من العائلة، وأم ضعيفة الحال. وعمل متقطع قليل المردود، وضعف في التعليم وعيش بالقرب من المسجد. أما المسارعة إلى القول بأن الشاب كان مضطرباً نفسياً، فهذا الادعاء حمال أوجه، فماذا يعني الاستقرار النفسي في مقابل الاضطراب النفسي في هذه الحال؟ الأرجح أن الأصح هو أن نقول وراء فعلة مبسوط استثمار في الاضطراب النفسي. والاستثمار هنا لا يقدم عليه شخص أو جماعة، انما هو عملية امتصاص غير واعية لشروط الانفجار. وهذا بدوره ليس فعلاً فردياً، وزيارة سريعة إلى مناطق الفقراء في طرابلس يمكنها أن تعزز من هذا الوصف.
المسارعة للقول إن مبسوط “ذئب منفرد” ينطوي على ميل إلى طرد احتمالات الشر المتولدة عن تعاملنا حكومة وجماعات، مع حقيقة ثقيلة مقيمة في طرابلس وفي ضواحيها. إنه “ذئب منفرد” خرج عن الجماعة الأهلية وضرب من غير رغبتها. على هذا النحو نطمئن إلى أن الأشرار هم أفراد وليسوا قطعاناً وجماعات. “ذئب منفرد”، لأن الجماعة التي صدر منها يجب عدم إدانتها بفعلته، مثلما لا ندين الجماعات الأخرى بذئابها المنفردة.
الفقر والبطالة و”الجهاد” في سوريا وسجن رومية وحال الاحتقان المذهبي، هذه كلها ليست شروطاً فردية وشخصية في طرابلس. المسارعة إلى تلقف العبارة في سياق إخراج “الشيطان” من وجداننا لن يفيد، مثلما لن يفيد تولي الطوائف الأخرى ادانة طائفة “الذئب”، وهذا ما حصل أيضاً، ذاك أن الطوائف في لبنان لن تفوت فرصة ذهبية من هذا النوع لكي لا تدين قرينتها فيها. وإذا كان لكل طائفة ذئابها، فالذئب هنا لم يعد منفرداً. وعلينا أن نتذكر أن الذئاب تعيش في قطعان أيضاً، وهي حين تفعل ذلك تصبح أكثر قابلية على التوحش وعلى الانقضاض. وفي لبنان لدينا قطيع في طرابلس تسرب للقتال في سوريا، وقطيع آخر يقاتل هناك مع النظام، ويبدو أن ثمة قطيعاً ثالثاً قيد التبلور قرر أن اللاجئين السوريين هم فريسته. لكن الأكيد أن ليس بين هذه القطعان ذئب واحد منفرد.
المصدر: موقع درج ٥ حزيران/ يونيو ٢٠١٩