حازم الأمين
إلى كنعان مكية
قبل خمسة عشر عاماً، وفي مثل هذا اليوم، جرى إعدام صدام حسين، في مشهد قد لا يجود علينا الزمن بمثله! لقد فصل الجلاد رأسه عن جسمه في مشهد ثأري لا يشبه ما كنا نتمناه له من نهاية، فيما هو كشف في هذه اللحظة عن قدرة على التماسك، وهو ما صنع له صورة أين منها صورته حين كان يشعل الحروب!
لكن ليس هذا مجال تناولنا اليوم، إنما حقيقة أن الإنسانية أضاعت فرصة محاكمة عادلة لأحد جزاري القرن العشرين، ذاك أن مشهد فصل رأسه عن جسمه ردنا إلى حقيقة أن صدام حسين لم يسقط علينا من السماء، إنما هو امتداد لقسوة أفرد لها، كنعان مكية، غالبية كتبه عن العراق، وآخر هذه الكتب افتتحه مكية بمشهد الإعدام، واختار له اسماً هو “the rope”، وعنى به الحبل الذي فصل رأس صدام عن جسمه.
لكن ذكرى ذلك المشهد الثأري تحل علينا هذه السنة في وقت يعيش فيه العراق فصولاً جديدة من انعدام العدالة ومن الإفلات من العقاب، وهذا لا ينفصل عن المشهد الذي انعقد في بغداد عشية عيد الأضحى من عام ٢٠٠٦ حين جرى فصل رأس الديكتاتور عن جسمه.
فضحايا صدام تحولوا إلى “صدّامات” صغار، وهم يواصلون نموهم وسيبلغون ما بلغه الديكتاتور من دموية. والعراق الذي تخلص من صدام على هذا النحو البشع، مبتلٍ اليوم بعشرات “الصدّامات”، ممن يقتلون المتظاهرين والنساء والنشطاء، وممن تعفيهم “عدالة ما بعد صدام” من أي محاسبة.
وهذا مرة أخرى يردنا إلى مشهد الإعدام الذي أقدمت عليه حكومة نوري المالكي ونفذه صدريون أوكلت إليهم مهمة تنفيذ الحكم، فكان أن حولوا الديكتاتور إلى بطل، وحولوا العدالة إلى مهزلة، فانبعث صدام مجدداً بوصفه بطلاً سنياً في مواجهة أشرار شيعة، بعد أن كان شريراً سنياً ضحاياه من كل العراقيين وإن تصدرهم الشيعة والأكراد.
حرمنا الإعدام الثأري لصدام حسين من تحويل محاسبته على ارتكاباته إلى فرصة للعدالة في بلادنا. فمشهد الإعدام عاد وتولى بعث صورة “صدام البطل” في وجدان ملايين يتولون اليوم تحويل أي خبر عنه إلى “ترند” يتصدر أخبار الـ”سوشال ميديا”، وأطلق اسم الديكتاتور على آلاف من المواليد الجدد.
فصدام أعدم في لحظة مذهبية، وليس في سياق من العدالة، والبعد الثأري للواقعة جعل من الجزار أيقونة غذت خصومه كانت استأنفت اشتغالها على وقع آخر، غير وقع المظلومية التي أسستها مجازره.
وصدام اليوم هو جزء من احتقان له أيقوناته على طرفي الانقسام. اسم صدام لم يتحول إلى كلمة محرمة على نحو ما هو اسم أدولف هتلر محرّمٌ في أوروبا والعالم مثلاً. فقد شهد اسم “هتلرنا” ازدهاراً يكشف عمق الهاوية الأخلاقية التي نواصل سقوطنا إليها.
أقامت إحدى بلديات الضفة الغربية نصباً باسمه، ويتباهى محامون من جنسيات عربية مختلفة في أنهم كانوا جزءاً من فريق الدفاع عنه، وأشهر نجم إخباري تلفزيوني لبناني اسمه في تقاريره، وإذ به “صدام حسين”! نسمع التقرير الإخباري كل يوم مذيلاً بهذا الاسم! والغريب أن الصحافي اللبناني صاحب الاسم، وكذلك مواطنته المحامية التي تتباهى بأنها كانت جزءاً من فريق الدفاع عن الديكتاتور يمتان بقرابة سياسية لحزب الله اللبناني، الذي بدوره يمت بقرابة مذهبية وسياسية للجهة التي نفذت الإعدام الثأري وفصلت رأس صدام عن جسمه.
وفي هذا الوقت أطل علينا أمير “داعش” في مدينة البوكمال السورية حاملاً الاسم نفسه: إنه صدّام الجمل، وهو اليوم نزيل السجن العراقي، وإحدى التهم الموجهة إليه هي إحراق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة. ألا تشبه واقعة إحراق الكساسبة مشهد فصل رأس صدام عن جسمه؟ إنها القسوة ذاتها!
اليوم أطلق عدد من ناشطي الانتفاضة العراقية مبادرة أسموها “إنهاء الإفلات من العقاب”، ومهمتها الرئيسة تعقب قتلة الناشطين العراقيين خلال انتفاضة تشرين (أكتوبر). والمرء إذ تحل عليه ذكرى إعدام صدام، تلوح أمامه فكرة في هذا السياق ليست بعيدة عن إفلات القتلة الجدد من العقاب!
صدام أيضاً أفلت من العدالة، وإعدامه جاء في سياق من الإفلات من العقاب. التمييز الضروري بين الثأر وبين العدالة هو الفارق الذي يصنع من حدث المحاكمة درساً يمنع ولادة ديكتاتور جديد. في أعقاب الإعدام ولد في العراق عشرات “الصدّامات”، وفصل الرأس عن الجسم تحول إلى لغة وإلى نموذج، والقتل استمر بوصفه فعلاً عادياً لم يحل دونه سقوط النظام.
واليوم ومن مسافة خمسة عشر عاماً على ذلك الحدث يمكن للمرء أن يقول إن سقوط نظام البعث في بلاد الرافدين لم يفض إلى شفاء من صدام، لا بل تولت الوقائع التي أعقبته عملية تخصيب مرعبة لذلك الوباء.
ضحايا صدام استنسخوا تجربته في الحكم، وضباطه أسسوا “داعش”، فيما حلق اسمه في وجدان عربية انخرطت في نزاعات أهلية وحولت الثورات على الأنظمة إلى حروب مذاهب وعشائر.