جسر: متابعات:
الفيديو الذي حمل عنوان “What is It Like to be a Tourist in Damascus in 2019?”، يبدو مختلفاً قليلاً عن العديد من الفيديوهات المماثلة لمدونين ورحالة زاروا سوريا بالتنسيق مع النظام السوري منذ العام 2016، حيث لا تتم الإشارة مباشرة للتنسيق مع سلطات النظام السوري بشأن الزيارة والتصوير والسردية المطلوبة، وإن كانت بعض اللقطات تؤكد وجود مرافقة للمدونة في كل خطوة تخطوها في شوارع دمشق، مثلما هو الحال تماماً مع أي صحافي/مدون أجنبي يدخل الأراضي السورية، حيث تتكفل وزارة الإعلام في العادة بتوفير أولئك المرافقين الذين يحرصون على عدم وجود ما يخالف سردية النظام، في الحوارات مع الناس أو في الصور الملتقطة على حد سواء.
وربما يكون ذلك هو السبب في كون الفيديو مختلفاً أيضاً عن بقية تسجيلات زو بيك الموجودة في قناتها عبر “يوتيوب” بما في ذلك زيارتها لباكستان واليمن وأفغانستان ودول أخرى تشهد صراعات دامية، والتي تظهر درجة أعلى من الحرية في التنقل وكثافة في عدد المقاطع المسجلة، وليس مقطعاً واحداً من 12 دقيقة فقط. علماً أن زو بيك (28 عاماً) تقول بصراحة أنها لم تتمكن من التصوير في المركز الحدودي بين سوريا ولبنان، لسبب مجهول لم تذكره، وقد يكون مرتبطاً بالتنسيق مع سلطات النظام أو الحصول على موافقة أمنية، كما قالت الرحالة أنها حصلت على فيزا خولتها دخول البلاد لمدة 15 يوماً، من دون أن توضح المدة التي قضتها في البلاد.
https://youtu.be/k_dKLIZxN_E
ورغم الاختلافات البسيطة السابقة، يدور الفيديو في إطار الكليشيهات المعتادة والتي لا تخلو من سطحية، مثل كون البلاد مهد الحضارات ورمزاً لتعايش المسلمين والمسيحيين واليهود. وكما هو متوقع، فإن الزيارة السريعة إلى دمشق لا تلمح أياً من المظاهر “غير الطبيعية”. فالتصوير يتم في شوارع تضج بالحياة بعكس ما يذكر في “الميديا العالمية”، وتتمحور اللقطات حول أنواع الأطعمة في مطاعم دمشق القديمة. لا نازحين أو مشردين ممن أفقدتهم الحرب بيوتهم، بينما تحجب الكاميرا جزءاً كبيراً من الصور اليومية في دمشق، من بقايا الحواجز الأمنية والفقر والتشرد والنزوح وحتى أزمة المياه والكهرباء.
بالمقابل يتم التركيز على الإخاء المسيحي الإسلامي، بالتصوير لوقت طويل في متجر لبيع الهدايا في دمشق القديمة، حيث يدور حوار بين صاحب المحل المسيحي وشخص آخر مسلم لا يتم التعريف به، حول احترام الإنسانية والأديان والعيش بسلام جنباً إلى جنب، مع صور لمنحوتات للصليب وأيقونات مسيحية في الخلفية باستمرار. وفيما يبدو ذلك “بريئاً” إلا أنه يصبح في اللقطة التالية مثيراً للشكوك، مع ارتداء زو بيك وشاحاً يمثل علم النظام السوري، وكأن كل تلك الكليشيهات لم تكن لتوجد لولا انتصار النظام السوري على “الإرهابيين”، الذين، مجدداً، لا تتم الإشارة إليهم، بل ربما يترك ذلك، عن قصد أو من دون قصد، لإدراك المشاهد “الأجنبي” للسياق الواضح، وهو ما يتجلى في قراءة التعليقات على الفيديو.
والحال أن زيارات المدوّنين ونجوم السوشيال ميديا، لسوريا، من أجل تعميم بروباغندا النظام حول نهاية الحرب في البلاد وإعادة الإعمار والانتصار على “المؤامرة”، باتت أمراً روتينياً خلال الأشهر القليلة الماضية. فزار البلاد عدد من الرحالة العرب مثل المدون الفلسطيني – السويدي أندراوس باسوس، ومدونون أردنيون ولبنانيون، بالإضافة للرحالة الصينية وو شان. وكلها زيارات احتفى بها إعلام النظام الرسمي كدليل على “زيف الإعلام الغربي”. اللافت هنا، أن إعلام النظام لم يروج بزيارة زو بيك على الإطلاق.
هذا التناقض في المشهد العام يؤدي لتساؤلات لا بد منها، هل كان هنالك تنسيق مسبق بين الرحالة وسلطات النظام أم أن زو بيك انصدمت بكمية الضغوط التي فرضت عليها في الرحلة التي كانت أصلاً عفوية مثلما تقول؟ وإن كان الحال كذلك، لماذا أتى الفيديو بهذه الطريقة التي تروج تماماً لبروباغندا النظام السوري وسرديته حول الحرب السورية، ولم يأت بطريقة توثق مثلاً الأسلوب الذي يتعامل به النظام مع هذا النوع من المؤثرين في الفضاء العام والسوشيال ميديا، والذي مازال حتى اليوم غامضاً بالمقارنة مع تعامل النظام مع الصحافيين من وسائل إعلام كبرى.
وربما يكون الهدف من النشاط الإعلامي أصلاً هو المفسر لتلك التساؤلات، حيث يفترض بالصحافيين النزيهين ملاحقة الحقيقة والسعي لتقديمها، لكن ذلك قد لا يكون الهدف النهائي للمدونين الباحثين عن الشهرة والثراء من مواقع التواصل. وبالطبع لن يكون تقديم مقطع فيديو أقرب لأسلوب الـ”Undercover Journalism” مناسباً لهوية مشروع زو بيك عموماً، خصوصاً عند ملاحظة كمية الرعاة الذين يقدمون الدعم لزو بيك من أجل أسفارها ورحلاتها، التي تروج لأفكار ومنتجات على حد سواء، مثلما يتجلى في مدونتها عبر الإنترنت وحسابها في “أنستغرام”.
ضمن هذا السياق ومع افتراض البراءة، يصبح مفهوماً عدم تقديم الفيديو معلومات تخالف السردية الرسمية، بعكس ما قام به صحافيون بارزون من وسائل إعلام عالمية، بما في ذلك صحافيو “نيويورك تايمز” الذين زاروا سوريا مؤخراً، وقدموا تقريراً مذهلاً عن حقيقة الحياة في سوريا في ظل “انتصار” النظام، من دون نسيان الفيلم الوثائقي “داخل سوريا الأسد” الذي احتال فيه صحافيون أميركيون من فريق سلسلة “فرونت لاين” العام 2015 على سلطات النظام وقدموا شريطاً مبهراً من ناحية كشف الأسلوب الذي يحاول به النظام توجيه الإعلام الأجنبي الذي يستطيع دخول البلاد.
على سبيل المثال، كتبت مراسلة “نيويورك تايمز” فيفيان يي، أنها اشتكت إلى وزير الإعلام لكثرة المرافقين، وتدخلهم في حواراتها مع المدنيين، فقال لها: “عليك أن تفهمي أننا لسنا أميركيين، ونقوم بالأمور بشكل مختلف هنا، والكل هنا يفترض أنكم جواسيس”، علماً أن تلك الجولة التي استغرقت ثمانية أيام، كانت بمرافقة المخابرات العسكرية. وأكملت ملخصة معنى التواجد في سوريا في 2019: “كيف يبدو الانتصار؟ مقتل نصف مليون على الأقل، وحرمان حوالي 11 مليوناً من بيوتهم، وأنقاض في المدن، وجيران أشباح، أسواق للبعض وخيار مزروع في البيت للبعض الآخر”.
بعكس ذلك، لخصت زو بيك معنى التواجد في سوريا 2019 بالقول: “قضيت وقتاً مذهلاً في سوريا”. وأضافت بأنه رغم ذلك فإن سوريا ليست أكثر وجهات السفر أماناً وسهولة لأنها “وسط أزمة”، وهي أزمة شردت الناس وفرقت العائلات وأدت لكثير من الموت. لا إشارة بالطبع للثورة السورية أو سبب هذه الأزمة من الأساس، أي اعتماد النظام سياسة “الحل الأمني” منذ العام 2011، بل تكتفي زو بيك بعبارة مثل: “شعرت بأني محظوظة جداً لأنني تمكنت من السفر بحرية إلى دولة لا يستطيع الكثير من سكانها العودة إليها”.
المدن 30 آب/أغسطس 2019