جسر : متابعات
كانت فكرة مباغتة ومستهجنة أن يحمل السوري شاهدة قبر شهيده في رحلة خروجه هارباً من بيته، ولكنها فطرة الضحية في إدراك وحشية القتل، وهو الذي أمعن في قتل كل مكامن الحياة باسم الدفاع عن الوطن تارة، وعن التاريخ والعلمانية والطوائف تارة أخرى.
الشاهدة الدليل على ضريح الشهيد، وبوصلة القاتل في انتقامه من أولئك الذين هتفوا ضد سطوته، ورفعوا السلاح دفاعاً عن بيوتهم وأعراضهم بعد أن استنفدوا كل وسائل السلمية، ومناشدة العالم الصامت المتواطئ، ولهذا كان لا بد من حماية أولئك الذين كانوا سنداً قبل رحيلهم.
ومع دخول قوات النظام للقرى -التي دمرتها طائرات بوتين- بدأ انتقام الوحوش من القبور والجثامين، والتقطوا صور وحشيتهم دون وجل أو اعتبار، وهو ليس بالأمر الغريب فقد فعلوها من قبل مرات عدة في كل المناطق السورية، وما حادثة نبش قبر أحد الشهداء في باب السباع بحمص في الأيام الأولى للثورة، وإلقاء جثته أمام منزل ذويه من قبل المخابرات العسكرية إلا دليل على أن هذا السلوك هو عقيدة أصيلة في قلوب وعقول هؤلاء القتلة وأسيادهم.
في ريف دمشق الغربي تكررت نفس حوادث نبش القبور لأسباب أخرى، وقد عمدت أجهزة الأمن لذلك من أجل إيقاع الفتنة بين الأهالي، وذلك لإحداث اقتتال يخسر فيه الجميع، وحينها كان الوعي الجمعي حارساً من تلك الفتن عندما كانت الروح متوثبة وواعية.
في حرستا بغوطة دمشق الشرقية قامت قوات النظام بنبش قبور المسيحيين بحثاً عن الذهب، واعتقد هؤلاء أنهم ربما يجدون مجوهرات أو مصوغات ذهبية في توابيت المقبرة التي نبشوها بوحشية بعد أن أحاطتها السكينة طوال عقود طويلة بجوار مقابر المسلمين وبين ظهرانيهم.
فعلتها (داعش) بقبور ضحاياها، وبكل من اعتقدت أنه ضد اعتقادها الأسود حتى أولئك الذين طوتهم مئات السنين فهدموا قبور وتمائيل الشعراء والأئمة، وبنوا فوق ذلك أجيالاً من الحاقدين على كل ما يجعل الحياة ممكنة، وبهذا يلتقون مع شركاء القتل في فصائل الذبح الطائفية التي تحمي المراقد المقدسة هناك، وتهدم مقدسات الآخرين وبيوتهم وأحلامهم.
لم يفعلها أول قاتل في تاريخ البشر، وحين قتل قابيل أخوه هابيل حمله على ظهره باحثاً عن حل لجريمته كيف يخفيها، وماذا يفعل بها فأرشده الغراب إلى دفنها، وبعد كل رسالات السماء لأهل الأرض ما زال القتلة يمارسون القتل، وينكلون بجثث ضحاياهم، ولكنهم لا ينبشونها بعد سنوات فقط من أجل نكءِ جراح لا يمكن أن تشفى.
وهذا ما قاد إلى أسئلة يائسة عن سوريا القادمة، وكيف يمكن أن يقع السلم الأهلي بعد كل رسائل الموت والانتقام، ومع منْ..مع جحافل القتل واللصوصية ونبش القبور؟؟.
أي بلاد هذه التي لا يترك فيها القاتل أملاً للناس كي تنسى بعد حين دماء ضحاياها، وتغفر لمن أطلق النار على أبنائهم، وتصفح عمن كان مشاركاً بالإكراه والخديعة في هذه المقتلة الكبرى، وتترك للعدالة أن تقتص من ثلة القتلة الكبار والفاعلين؟.
هؤلاء لم يتركوا محرماً واحداً دون انتهاك، ولا جريمة إلا وأضافوا إليها لمساتهم، وابتدعوا كل ما يخدش كرامات الناس ويهين مقدساتهم، والخشية أن أبواب الرحمة بين السوريين باتت مغلقة إلى زمن بعيد، وأن الدم المسفوك بات أعلى من كل نداءات العقل، ورسائل هؤلاء النبّاشون تقول أمراً واحداً لم يعد الوطن يتسع لنا جميعاً.
نشر في موقع تلفزيون سوريا 11شباط/فبراير 2020