جسر: رأي:
المقابلة الطويلة التي أجراها الصحافي ابراهيم حميدي مع المبعوث الأمريكي الخاص بالملف السوري جيمس جيفري، ونشرتها جريدة “الشرق الأوسط” بتاريخ 2 أيار/مايو 2020، مقابلة تستوقف من نواحٍ عدة، وذلك سواء بالرسائل التي تضمنتها، أم بالمواقف التي جددتها أو أفصحت عنها، أو بالوقائع التي تصمت عنها؛ هذا إلى جانب الإشارات التي قد يُستشف منها ملامح وأبعاد العلاقة المستقبلية بين الروس والأمريكان في ضوء توزيع الأدوار وتكاملها في منطقتنا.
الرسالة الأهم يوجهها جيفري إلى عدد من الدول العربية المتلهفة للانفتاح على النظام السوري، وتطوير العلاقة معه، والعمل على إعادته إلى الجامعة العربية؛ وذلك بحجة أن خطوات من هذا القبيل ستبعد النظام عن إيران. وهي الفكرة التي وصفها جيفري بالمجنونة أو الجنونية؛ مبيناً في سياق رده على مزاعم المتهافتين بأن علاقة النظام الإيراني مع سوريا عبر نظام بشار الأسد باتت عضوية، فأجهزة النظام المعني متغلغلة معشعشة في الدولة والمجتمع السوريين. وحتى يخفف من مسؤولية بعض الدول العربية، أو ربما تحذيرها، أردف جيفري قائلاً: “لا نعتقد أن دول الخليج العربي والبلدان العربية الأخرى ستكون على وفاق أبداً مع رجل مثل الأسد”.
فإيران ماضية في دعمها لحزب الله والميليشيات المذهبية المرتبطة بها، وهي الميليشيات التي جاءت بها من العراق وأفغانستان وباكستان، وربما من دول أخرى لتحارب الشعب السوري ضمن مشروع ولي الفقيه التوسعي.
رسالة أخرى يوجهها جيفري إلى النظام الإيراني عبر تأكيده دعم الولايات المتحدة الأمريكية للهجمات الإسرائيلية ضد القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها داخل الأراضي السورية، وذلك في سياق السياسة الأمريكية الثابتة في ميدان الالتزام بأمن إسرائيل. فما ذهب إليه جيفري في مقابلته هو أن الأخيرة تواجه خطراً وجودياً يتمثّل في النظام الإيراني، ويصفه بالنظام الوحشي الذي يقمع الشعب الإيراني ويعمل على التغيير المذهبي في سوريا ضمن إطار سياسته المعهودة التي تقوم على وضع المذهب في خدمة مشاريعه التوسعية التي تُستخدم ضمن الحملة التضليلية الديماغوجية التي يمارسها في الداخل الإيراني، وذلك بهدف إقناع الناس بضرورة التحمّل، وانتظار نتائج “الفتوحات الكبرى” التي ستجعل من إيران قوة أساسية سائدة في المنطقة، بل “قوة عالمية عظمى” يُحسب حسابها.
رسالة ثالثة يوجهها جيفري إلى السوريين المناهضين لحكم الأسد، مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست إلى جانب نظام بشار، بل هي مع الانتقال السياسي، ويبين أن الضغط الاقتصادي الذي يمارسه الأمريكان على النظام إنما يستهدف الأخير وليس الشعب السوري، والغرض منه هو إرغام النظام على القبول بالانتقال السياسي، وإقناع الشخصيات القريبة من النظام بأن الضغط لن يتوقف من دون تغيير سياسي في البلاد.
وبالتكامل مع هذه الرسالة، هناك رسالة موجهة إلى الأوروبيين، تبين لهم أهمية الاستمرار في خط العقوبات المتخذة ضد نظام بشار.
وهناك رسالة مزدوجة خاصة بالروس فحواها أن الأمريكان هم إلى جانب تركيا في موضوع إدلب. ويتجلى ذلك عبر تثمين الدور التركي في ميدان التعامل مع المجموعات الإرهابية التي يحددها بجبهة تحرير الشام، ويرى أن هذه الأخيرة لا تشكل خطراً على النظام والروس، بقدر ما تشكل خطراً على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وبالانسجام مع ذلك لا يرى أي مسوغ لأي هجوم سواء من جانب الروس أم من جانب النظام ورعاته الإيرانيين على إدلب، وهي التي اعتبرها في مقابلته آخر قلاع المعارضة السورية التي لم تسقط رغم توقعات الكثيرين العكسية.
أما الشق الثاني من الرسالة الروسية فهو يتشخص في الإشارة التي يُستشف منها إقرار ضمني باستمرارية الوجود الروسي في سوريا مستقبلاً. هذا بينما يبين جيفري أن كل القوات الأخرى، بما فيها الأمريكية، ستخرج من سوريا. ولكن ما هو الثمن مقابل ذلك؟
هل المطلوب من الروس الإسهام في عملية إخراج الإيرانيين من سوريا، وهذا ما يستوجب المزيد من التعاون والتنسيق مع الإسرائيليين الذين أعلنوا صراحة أنهم قد انتقلوا من عملية إعاقة القوات الإيرانية في سوريا، إلى مرحلة العمل الجاد من أجل طردها وإخراجها من البلاد؟
والسؤال المشروع الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل من علاقة أو صلة بين الموقف الأمريكي هذا الذي أفصح عنه جيفري والدراسات والتقارير والاستطلاعات الروسية التي صدرت عن المجلس الروسي للشؤون الدولية، وصندوق حماية القيم الوطنية، وغيرهما من الدوائر الصحافية القريبة من صانع القرار الروسي، حول فساد النظام السوري، وتراجع شعبية بشار الأسد، ورغبة السوريين في التغيير؟
والملاحظ أن هذه التقارير جاءت قبل خروج الأزمة بين رامي مخلوف وبشار وطاقمه بصورة دراماتيكية إلى العلن. وذلك بعد فترة طويلة نسبياً من الخلاف الصامت، وهو الخلاف الذي لم يعرف بحقيقته وأبعاده سوى من هم في الدوائر الضيقة المحيطة بهما.
إلى جانب ما تقدم، كان من اللافت إشادة جيفري بإدانة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية للنظام في موضوع استخدام السلاح الكيميائي (السارين والكلور) في اللطامنة (ريف حماة) في 24 و30 آذار/مارس 2017. كما أنه أوضح دلالات عدم سيطرة النظام على مناطق هامة واسعة من سوريا، خاصة مناطق السهول الزراعية، وتلك التي تحتوي على حقول النفط؛ هذا فضلاً عن رفض أكثر من عشرة ملايين سوري العيش ضمن المناطق التي يسيطر عليها النظام.
والأمر الذي يستوقف في مقابلة جيفري أنه يريد إقناع المشككين بالموقف الأمريكي في سوريا بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست من أصدقاء النظام السوري، هي ليست كذلك في عهد ترامب، ولم تكن كذلك أيضاً في عهد أوباما. ويشدد أن بلاده ستستمر باستخدام كل أنواع الضغط على النظام من أجل إرغامه على التمثل لمطالب التغيير، ويكون مستعداً للقبول بالانتقال السياسي. ومن هنا دعوته الموجهة لشخصيات قريبة من النظام، وفحواها أن لا مستقبل لهذا النظام.
أما لماذا لم تضغط الولايات المتحدة الأمريكية على النظام في الوقت المناسب، ومنذ بدايات الثورة السورية ربيع عام 2011، وقبل ظهور جبهة النصرة وداعش، وقبل الامتداد الإيراني المكثف، والدخول الروسي الضخم، فكل ذلك يدخل في باب المسكوت عنه، لذلك نعلّق أسئلتنا حول هذا الموضوع مبدئياً في انتظار ترجمة وعود هذه المقابلة واقعاً على الأرض.
وفي إشارة إلى اللجنة الدستورية، يبين جيفري أنه لولا الضغط لما قبل النظام بتحديد جدول أعمال جلستها المقبلة، هذا رغم تقليله من شأن هذا الموضوع برمته. لذلك يشدد على أهمية أن يأتي ذلك في سياق دفع النظام نحو القبول بالانتقال السياسي.
والملاحظ أنه بالانسجام مع ما تقدم يشكك منذ الآن في الانتخابات التي قد يجريها النظام في العام المقبل بغرض التجديد لبشار؛ ويقول عنها بأنها ستكون عديمة المصداقية، بل ستقابل بالرفض التام من جانب المجتمع الدولي.
ما يمكن قوله عن هذه المقابلة، هو أن أنها تختلف عن الأحاديث والمقابلات الأخرى التي كانت حتى الآن مع جيفري بشأن الموضوع السوري.
ويبدو أنها تعكس الرغبة في الوصول إلى المزيد من التوافقات مع الروس حول هذا الموضوع. ومن الواضح أنه يحرص على أخذ الموقف التركي بعين الاعتبار، خاصة في موضوع إدلب.
وليس بعيداً عن الموضوع السوري الذي سيتعهد به الروس، وبالتنسيق مع إسرائيل، وفق تلميحات جيفري، نرى أن العراق سيكون على الأغلب محور التركيز الأمريكي في المرحلة المقبلة. ولكن دائماً هناك حسابات وتفاصيل تؤخذ بعين الاعتبار. ولا يمكننا في هذا المجال أن نقول إن الأمور قد حسمت لصالح هذا السيناريو أو ذاك، وإنما ما نتلمسه بصورة أولية هو وجود إرادة أمريكية بمنع إعادة تأهيل نظام بشار عربياً، أو تسويقه دولياً، خاصة أن مفاعيل قانون سيزر/ قيصر باتت على الأبواب.
وهناك ملفات كثيرة يمكن استخدامها أمريكياً لإدانة النظام بجرائم الإرهاب المنظم، وغسيل الأموال، والتغيير الديموغرافي، والجرائم ضد الإنسانية، وغير ذلك من الملفات؛ ولكن كل ذلك مرتبط بماهية وآفاق التوافقات المنتظرة مع الروس.
وتحسباً لأية احتمالات أو متغيرات، يبقى موضوع محاربة داعش له الأولوية.
وفي سياق الملف ذاته، تبقى العقدة التي تنتظر الحل ونعني بها موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي الـ “ب.ي.د” الذي يُسمى في إطاره الأوسع بـ “قسد”. هل سيكون هذا الموضوع جزءاً من الحل السوري المتوقع بعد تفكيك العلاقة بينه وبين حزب العمال الكردستاني، ليصبح حزباً كردياً سورياً، مقابل جهود أمريكية جادة، وبالتنسيق مع إقليم كردستان العراق، لإعادة الحياة إلى العملية السلمية التي كانت تستهدف الوصول إلى حلٍ عادل للقضية الكردية في تركيا، ضمن إطار وحدة الدولة هناك؟ هذا الأمر هو على غاية الأهمية بالنسبة إلى كل من سوريا والعراق وتركيا، وهام بالنسبة إلى الاستراتيجية الأمريكية المعلنة، ولكنه ذو أهمية قصوى بالنسبة إلى شعوب المنطقة بصورة عامة، لأنه في حال معالجته بصورة عقلانية عادلة سيفتح الآفاق أمام انتعاش اقتصادي يجذب أموال الاستثمار في أجواء الأمن والأمان والاستقرار، ويحقق قفزات تنموية نوعية توفر فرصاً واعدة في ميداني التعليم والعمل أمام أجيالنا المقبلة، وهذا ما يقطع الطريق أمام مشاريع الإرهاب والتدمير والموت بكل اسمائها وصيغها وتلويناتها وادعاءاتها.
*نشر في القدس العربي اﻷحد 10 أيار/مايو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا