جسر: ثقافة:
هل تطوّرت الرواية؟ لا، لم تتطوّر، ما زالت محافظةً على قوام، أصبح رشيقاً، وإن أضحى معقّداً؛ الأسلوب والخيال واللغة، وسائلها الكبرى في التعبير. ومهما كان ما طرأ من متغيّرات في الحياة، فلم تقدّم الكثير لمسيرتها في الزمن، ما حصل كان أخطر، لقد صنع لها التقدُّم في العمر تجارب لم تدعها تشيخ، أو تسقط في العجز، وبوّأها مكانةً آخذة في التجسُّد بوجوه متنوّعة وأبعاد مختلفة.
ففي نشأتها، لم تكن أكثر من أساطير وحكايات، كانت محاولات لتفسير لغز الحياة والعالم والكون، ومع الوقت تنوّعت الحاجة إليها، وراوحت بين وسيلة للتسلية تُشبع المخيّلة، كما تنزع إلى التأمّل والتساؤل، يرافقها جانب عاطفي، في جوع دائم، بات لا يخمد إلى قصص لا يُرتوى منها، نجمت عن تقلُّبات الأحوال والطبائع، فكانت قصص الخيانة والغدر والصداقة.
لم تصل الرواية إلى شكلها الحاضر، إلّا بعدما قطعت مشواراً طويلاً، في زمن قياسي، ففي بداياتها اعتُبرت الرواية فنّاً سطحيا ومبتذلاً، فالخيال الطائش والمنحرف، إضافة إلى استطرادات، لم تكن إلّا ثرثرة، ولو كانت غير مملّة، حافلة بالغرائب والطرائف، بدت بالنسبة إلى الأذواق الأرستقراطية في القرن الثامن عشر فنّاً محتقراً، تصرف التفكير عن القضايا الراقية، كانت الفلسفة تمنح وعوداً أكبر للعقل في التخلص من الخرافة.
أثبتت أن لا فن يزاحمها على عالم مادّته الحياة والبشر
لم يطل الوقت، عندما حلّت الرواية محلّ الحكايات الجميلة، ومسلسلات مغامرات أبطالُها يجوبون البراري والبحار وبلداناً لا توجد إلا في مخيّلات مبتدعيها، وتخلو منها الخرائط، ودورات الزمان المتعاقبة. بدأ النظر إلى هذا الفن بإعجاب لا ينقصه الاحترام، والتقدير لموهبة لا يمتلكها إلا القلّة، حتى إنّ فلاسفةً مثل فولتير وديدرو أسهموا في هذا الفن.
أمّا النقلة الأخرى التي أحرزها، فهو أنه كان على طريق العالمية، وأخذ يمثّل ثقافة عابرة للقارّات والبلدان، لا يقف عند حدود، بل ولا جنسية له، على الرغم من اعتباره أدباً قومياً. غدونا نقرأ روايات الإخوة برونتي الإنكليزية، مثلما نقرأ الروايات الروسية الكبرى لتولستوي ودوستوفسكي، ونعجب بموسوعة الفرنسي بلزاك الروائية “الكوميديا الإنسانية”، ونطرب لثلاثية المصري نجيب محفوظ، مع أن الإنكليز يكتبون عن بريطانيا، والروس عن روسيا، والفرنسي عن فرنسا، أمّا محفوظ المصري فعن القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين؛ نقرأهم جميعهم بالحماسة نفسها. ما الذي يجمع بينهم، مع أن مجتمعاتهم متنوّعة مثلما هي مختلفة، وغالباً لا تتشابه إلا في مشاعر البشر وفسادهم، وتوقهم إلى المطلق؟
أصبحت الرواية بحجم العالم، تحمله على عاتقها، وتبشّر بعوالم أُخرى، نسخة عمّا نعيشه أو ما نرغب في العيش فيه، أو نخاف منه، أو نحلم به. تعبّر عن تساؤلاتنا، عن وضعنا البشري، وإنسانية البشر، نجد فيها هروباً من انغماسنا في اليومي، إلى ما يدور في أعماقنا، تكشف عن حيواتنا السرية وعوالمنا النفسية، وهذا القلق جرّاء فقرنا الروحي، وسرائرنا المصابة بالشعور بالذنب، ترتاد المناطق الوعرة والغامضة، وتسبر الضمير الفردي، وتخشى من الضمير الجماعي، وستكون مرض الإنسان الذي لا يكتفي بضميره، فيُقدم على انتهاك ضمائر الآخرين، ترفع الغطاء عمّا نخفيه ونتخفّى عليه، وتخوض في وساوسنا، تطاول حيوات الآخرين وتعيشها، لا حياة تقف عندها، سواء كانت فاضلة، متزمّتة، مجنونة، عاهرة، معتوهة، باطلة… فتماهت مع النبيل والشريف والمهووس والقاتل والسادي والخائن… لم تدع شخصية، ولو كانت خيالية.
لبّت الرواية حاجات سرية وباطنية، أبعد عمقاً في النور، وفي الظلمات، وإلى ما لانهاية، ليس من دون دراية. فاستعانت بالبحث الفلسفي والتاريخي والأخلاقي والعلوم بأنواعها، وصحافة الوقائع اليومية، ولم تغفل الاعترافات، ولو كانت فضاحة، فأطرحت الحياء جانباً ولم تخجل من مقاربتها.
حاولت الرواية أن تحلّ محلّ الشعر والمسرح والسينما والموسيقى، فلم تنجح، لكنها هضمتها كلّها، وطوّعتها لعوالمها، وخاضت في أشد الموضوعات غرابة وأكثرها تجريداً وخصوصية، وأثبتت أن لا فن يحل محلّها، أو يزاحمها على عالم مادّته الأولى والأخيرة: الحياة والبشر.
* روائي من سورية