جسر: صحافة:
كنت أنتظر وصول المحامية رزان زيتونة عندما بدأت شابة تجلس قبالتي بتدخين لفافة تبغ ثم فتحت حديثاً قصيراً حول تغيير عنوانها بشكل مستمر هرباً من عناصر المخابرات السورية. خلتها بشعرها الأشقر المائل إلى الحمرة وببنطال الجينز الذي كانت ترتديه أنها طالبة أمضت عمراً في الجامعة دون أن تتخرج أو أنها تخرجت من الجامعة مؤخراً وأخذت تساعد رزان في تنظيم مظاهرات كبيرة في الشوارع كانت تخرج تحت جنح الظلام في إحدى المناطق بدمشق. لم أكن أريد أن أبدو وقحاً وأن أحرج الفتاة بسؤالي عن رزان وهل وصلت أم لا. ولكن في نهاية الأمر، كان من الصعب علي وعلى زملائي في السفارة العودة إلى بيوتنا في تلك الليلة الليلاء من شهر أيار/مايو دون لفت انتباه عدد كبير من رجال الأمن الذين لا بد وأن يتعقبوننا.
ثم إننا لم نتلق تدريباً كذلك الذي توفره وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، إذ قام أحد زملائي في وزارة الخارجية الأميركية بقيادة سيارته الصغيرة التي انحشرت داخلها برفقة زميلين آخرين فطفنا في أنحاء دمشق قبل أن يقوم بركن السيارة بالقرب من بناء سكني من الصعب وصف طريقة الوصول إليه. وعرفنا فيما بعد بأن الشقة المجهزة بأثاث بسيط وقليل كانت المنزل الآمن الذي تلجأ إليه رزان ورفاقها في بعض الأحيان. رغبت بمعاينة رزان على عجل قبل وصول المخابرات كما رغبت بمعرفة ما الذي تريده هي ورفاقها. فمن جهتي، وبوصفي سفير الولايات المتحدة في سوريا حينها، كنت أحث المتظاهرين على تفادي العنف.
وعندما أشعلت الفتاة لفافة تبغها الثانية، واصلت الحديث مؤكدة على أن المظاهرات لن تتوقف بالرغم من حملة الاعتقالات الكبيرة والتقارير التي كشفت عن وجود انتهاكات في مراكز الاحتجاز، لم تقل مرة: “إنني لست متأكدة” أو: “عليك أن تسأل رزان”. لذا استغرق الأمر مني بضع دقائق قبل أن أكتشف أن هذه الفتاة كانت رزان بشحمها ولحمها، إذ بدت لي أصغر من أن تكون هي، كما بدت أضعف من أن تكون قوة دافعة مؤثرة في تلك المظاهرات الكبيرة التي عقدت العزم على تحقيق الهدف. أكدت رزان بأن شريحة واسعة من المجتمع السوري قد التفت حول تلك الحركة الاحتجاجية، دون أن تصفها بأنها حركة “سنية”. كان برفقة رزان ناشط علوي هو مازن درويش (إذ في بدايات الثورة لوحظ انخراط العلويين فيها بشكل واضح، فهنالك فدوى سليمان التي توفيت في باريس عام 2017، والتي لفتت أنظار كثيرين إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وذلك عند انضمامها ومشاركتها في المظاهرات، وكذلك الكاتبة سمر يزبك التي وصفت مشاركتها في المظاهرات في كتابها: “امرأة في تقاطع النيران”). أصرت رزان على أن المتظاهرين يريدون نظام حكم ليبراليا ومتسامحا توجهه عملية ديمقراطية، دون أن تسهب في الحديث حول كيفية تحقيق ذلك، إذ لم يكن أحد في المعارضة السورية قادراً على أن يصف لنا كيف يمكن لعملية التحول تلك أن تحدث.
من جهتي، ركزت على رسالة الحكومة الأميركية ومفادها وجوب بقاء حركة التظاهر ضمن الإطار السلمي لتحظى بالدعم الغربي، ثم عرضت وجهة نظري إذ نصحتهم بالتحاور مع الحكومة مهما كانت قمعية ومقرفة. هنا أخذت رزان تدخن لفافة تبغها الثالثة، فبدت لي تشبه نموذج الفتاة القوية التي رأيتها بين الفاعلين السياسيين في الحرب الأهلية بالعراق، إذ شككت بقيام نظام الأسد بتقديم أي تنازلات قبل خوض قتال طويل أو سماحه للمعارضة بتنظيم صفوفها بما يكفي لتصبح فعالة على الصعيد السياسي. وبالفعل قوبلت مساعينا للضغط على النظام حتى يسمح للمعارضة بتنظيم صفوفها بمعارضة تامة من قبل الأجهزة الأمنية، بصرف النظر عن الوعود التي أطلقتها بثينة شعبان وأمثالها، تلك المرأة التي تعمل مستشارة إعلامية وسياسية لدى بشار الأسد. ففي إحدى المرات أكدت لي شعبان بأن النظام سيسمح للمعارضة بإقامة اجتماع في الحادي عشر من حزيران/يونيو من العام 2011. ولكن بدلاً من ذلك، وقبل الاجتماع بليلة، اقتحمت أجهزة الاستخبارات ضاحية القابون، واعتقلت العديد من الأشخاص، وأغلقت المكان الذي كان من المزمع للاجتماع أن يعقد فيه. لم أكن متأكداً حينها من أن ذلك يعكس شقاقاً حقيقياً ضمن صفوف النظام أم أنهم كذبوا علينا وخدعونا. إلا أن الوصفة الجاهزة كانت واضحة، لن تجري أي مفاوضات دون ضغوطات كبيرة. ولهذا يحسب لرزان أنها أدركت كل ذلك واستوعبته بشكل جيد، فقد توقعت أن يراق الدم، بل كثير من الدماء، بخلاف ما توقعته شخصيات أخرى في المعارضة سبق أن التقيت بها (وكثيرون منهم كانوا رجالاً في مثل سني).
أضافت رزان إلى ذلك أنه بمجرد أن ترحل حكومة الأسد بنهاية المطاف، سيتعين على الليبراليين أن يحاربوا الإسلاميين وينازعوهم في السيطرة على الحكومة، لكنها لم تذكر الإخوان المسلمين بالاسم، بل اكتفت بالتأكيد على أن الإسلاميين يمثلون عقبة كبيرة بالنسبة لليبراليين تماماً كعقبة وجود حكومة الأسد. ولقد التقيت بـكثير من الشخصيات المعارضة والمؤيدة خلال الشهرين اللذين سبقا لقائي برزان، ولكن أياً منهم لم يتطرق لذكر تلك المواجهة النهائية مع الإسلاميين، بل حاول كثيرون منهم التقليل من أهمية تلك المواجهة، وعندما سألتها هل تتوقعين قيام حربين متعاقبتين من أجل السيطرة على سوريا؟ أكدت لي ذلك بيقين وهدوء رصين.
غادرت ذلك الاجتماع دون أن تتضح لي الطريقة التي يمكن من خلالها للمتظاهرين في الشوارع التحاور مع حكومة الأسد، إذ كانت تلك مشكلة عرضها علي مستشارو الأسد بطريقة منطقية وعقلانية. لم تتظاهر رزان بأنها قادرة على التفاوض باسم المتظاهرين، بل رفضت أن تعين في منصب قيادة المجتمع المدني السوري. لقد عبرت رزان عن شكوكها في الوقت الذي عبرت فيه عن تفاؤلي بقيام محادثات بين الحكومة ومن يقومون بالحركة الاحتجاجية حينذاك. وطيلة ذلك اللقاء لم تبد رزان حماستها أو ضعفها، بل حافظت على هدوئها، وتحليلها الرصين للأمور إلى جانب تحديدها لما يجري بكل وضوح.
لم أرها بعد ذلك مرة أخرى، إذ بعدما سافرت إلى حماة عقب أسبوعين من ذلك اللقاء، أصبح وجود أفراد الأمن حولي خانقاً، فلم أعد أجرؤ على لقاء أي شخصية معارضة ليست لديها صفة قانونية ورسمية مخافة أن يتسبب لقاؤنا هذا باعتقال تلك الشخصية. ومع توسع نطاق العنف في آب/أغسطس من عام 2011، نجحت في إرسال رسالة لرزان عبر الفريق الذي كنت أعمل معه بواسطة المنصات الافتراضية. تذكرت تلك الفتاة القوية الصلبة عندما وصلني ردها على طلبي في شهر آب/ أغسطس بألا تلجأ الحركة الاحتجاجية لاستخدام العنف، حيث ردت بأن الوضع في سوريا كان أشبه بالمواجهة بين بريطانيا وغاندي، لذا يجب على الأميركيين ألا يتوقعوا من المعارضة أن تتصرف كما تصرف غاندي. وإنني على يقين أني بدوت ساذجاً بنظر رزان حينها. وبشكل مؤكد انتقلت رزان فيما بعد لتصبح على خط النار داخل الغوطة الشرقية المحاصرة في ريف دمشق وذلك في شهر آب/أغسطس من عام 2013، عندما نفذ نظام الأسد الهجوم بغاز السارين، لكنها نجت، ونجحنا بعدها مرة أخرى في تبادل الرسائل، إذ شعرت رزان بإحباط شديد لعدم قيام الأميركيين بتفعيل الخط الأحمر الذي حدده أوباما لاستخدام الأسلحة الكيماوية.
لم تكن رزان السورية الوحيدة التي توقعت منا أكثر مما قدمناه، إذ لطالما طلبنا من المعارضة أن تصل إلى عناصر من القاعدة التي تدعم حكومة الأسد لتمارس الضغط الداخلي على تلك الحكومة، كما أردنا من الأسد أن يقبل بحكومة انتقالية وفقاً لما دعا إليه بيان جنيف 1 في حزيران/يونيو 2012 والذي قمنا بالتوقيع عليه مع روسيا والجامعة العربية برعاية هيئة الأمم المتحدة.
وفي أواخر عام 2012 وأوائل عام 2013، برز اسم قائدين في صفوف الجيش السوري الحر وذلك بعد التطمينات التي قدماها للطائفة العلوية، أذكر هنا على الأخص العقيد عبد الجبار العكيدي الذي أكد عبر رسائل صوتية أرسلها من الداخل السوري بأن الجيش السوري الحر لم يحارب الأسد لأنه علوي، بل يحارب نظاماً قمعياً فاسداً ترأسه بالصدفة (وهنا أنقل رسالته بالحرف) شخص علوي. إذ أكد العكيدي في حلب والعقيد عفيف سليمان في إدلب بأن الجيش السوري الحر سيحمي العلويين في المناطق التي قام بتحريرها. وقد كان لذلك أهمية من نوع خاص بسبب ظهور جبهة النصرة حينئذ والتي تمثل أحد فروع تنظيم القاعدة في العراق، حيث أصبحت تتمتع بقوة ونفوذ في الشمال السوري، لدرجة أننا قررنا وضعها على قائمة الإرهاب التي أعدتها الحكومة الأميركية وهذا ما حدث في كانون الأول من العام 2012، وذلك لنحذر الجيش السوري الحر وكذلك المعارضة السياسية من التعامل معها، بل ليقوما بإدانتها واستنكار وجودها.
وهكذا دخل قادة من أمثال العكيدي وسليمان في منافسة مع جبهة النصرة على المجندين في صفوفهما ما بين أواخر عام 2012، ومطلع عام 2013. وتبين لنا من الاجتماعات التي التقينا فيها بممثلين من لجان التنسيق التي تحاول أن تدير المدن في الشمال السوري بعد انسحاب الجيش السوري منها بأن جبهة النصرة نالت حظوة وتفوقاً حينها على رجال من أمثال العكيدي وسليمان. وذلك لأن النصرة لديها أموال وإمدادات أكثر، تماماً كما وصلنا في تحذيرات هذين الرجلين. وفي شهر شباط/ فبراير من عام 2013، حصلنا أخيراً على موافقة الرئيس باراك أوباما على تقديم مساعدات غير فتاكة للجيش السوري الحر (عبر مبررات قانونية غاية في التعقيد قام بهندستها ورسمها محامون لدى الإدارة الأميركية).
توسمنا الخير كثيراً بذلك أنا وفريقي في سوريا، فقد سبق أن حذرنا في مذكرة صدرت في تموز/يوليو من عام 2012 وجهت لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون حينئذ، كما تم إرسالها إلى مجلس الأمن القومي أنه في حال لم تقم الولايات المتحدة بتزويد المعتدلين من أمثال العكيدي وعفيف بالسلاح، عندها لا بد أن تستولي النصرة على المنطقة الشرقية في سوريا، لتلحقها بما سبقها من مناطق في غرب العراق. إلا أن الرئيس لم يكن يرغب بتقديم السلاح. ولكن بعدما خلف جون كيري كلينتون ركز في أول اجتماع عمل عقده بوزارة الخارجية في عام 2013 حول سوريا، حيث وافق على طرح الموضوع مرة أخرى على أوباما. وهنا يحسب لكيري أنه ظل يلح في طلبه على الرئيس حتى اقتنع، لكنه لم يحصل إلا على موافقة تنص على تقديم مساعدات غير فتاكة، فتوصلنا حينذاك إلى أن ذلك أفضل من لا شيء. وتوسمنا الخير في تلك المساعدات غير الفتاكة، وبالأخص الإمدادات الغذائية والطبية والتي بوسعها أن تقدم بعض المساعدة لقادة عسكريين من أمثال العكيدي في منافستهم مع جبهة النصرة على المقاتلين والنفوذ.
التقيت بالعكيدي لأول مرة في شهر آذار/مارس من عام 2013 في ردهة الفندق الذي نزلت فيه بغازي عنتاب في تركيا. كان يرتدي بدلة مدنية داكنة اللون لأن السلطات التركية لم تسمح له بارتداء بزة عسكرية، وكان برفقته العديد من ضباط الجيش الحر الذين بدوا مهلهلين بالثياب المدنية. لم يجر حينها العكيدي معي حواراً قصيراً، بل كل ما فعله هو أن أشعل لفافة تبغه وأخذ يعدد ما يحتاجه قبل وصول الشاي، فلقد أتى من حلب ليحصل على دعم أميركي حقيقي لمقاتليه. لذا عندما أخبرته أننا سنبدأ بتزويدهم بشاحنات محملة بوجبات جاهزة ومعدات طبية، لم يعد يصغي للموضوع، بل مال بجسده وهتف بأعلى صوته قائلاً بأن جنوده على استعداد “لأكل ورق الشجر” لكنهم بحاجة إلى الذخيرة ليدافعوا عن أنفسهم أمام قوات الجيش السوري. فأخبرته بأن الأوامر التي وصلتني من واشنطن واضحة، إذ لن يتم تزويدهم بمساعدات فتاكة من أي نوع، ونصحته أنه من الأفضل له القبول بالإمدادات الغذائية، إذ عندها ستنتفي الحاجة لتناول ورق الشجر. غير أنه لم يبتسم، بل أخذ يشتكي مطولاً من لامبالاة الأميركان تجاه معاناة السوريين، وكان علي حينها أن ألتزم بدليل السياسة في بلدي.
وعندما أوشك ذلك الاجتماع المقيت على الانتهاء، قررت أن أعرض على العكيدي وجهة نظري الشخصية، فاقترحت عليه أن ينظر إلى اجتماعنا على أنه خطوة، حيث أخبرته بأن الشاب والصبية في الثقافة الأميركية يتبادلان الحديث أولاً، ومن ثم قد يتناولان القهوة في مقهى سوية، بعد ذلك قد يرتادان السينما معاً أو يتناولان العشاء في مطعم، وفي مرحلة لاحقة لابد لهما أن يخرجا معاً في مناسبات كثيرة قبل أن يتزوجا، أي أن كل خطوة في العلاقة مبنية على الخطوات التي تسبقها. فأتاني رد العكيدي على الفور بأن الشاب والصبية في سوريا يتزوجان قبل أن يخرجا سوية لحضور فيلم في السينما أو لتناول الطعام معاً، إلا أنه اعترف بالحاجة لبناء علاقة مع الأميركيين، ولهذا السبب أتى من حلب ليلتقي بي كما ذكر في نهاية الاجتماع.
التقيت بالعكيدي مرة أخرى في أيار/مايو على الحدود التركية-السورية، ولكن هذه المرة برفقة سبع شاحنات كبيرة محملة بآلاف الوجبات الجاهزة. ومن الخصال الطيبة التي يتمتع بها العكيدي أنه لم يعبر عن خيبة أمله وإحباطه لعدم وجود أسلحة فتاكة. ثم فتحت البوابة الحدودية، فرأينا الشاحنات وقد ركنت عند مبنى الجمارك السورية السابق على بعد مئات الأمتار في الداخل السوري عند معبر باب السلامة. سألني حينذاك العكيدي إن كنت أرغب بلقاء فريقه وشرب الشاي بصحبتهم في ذلك المبنى، فأجريت حساباتي في عقلي على عجل، إذ لم يكن من المسموح لنا أنا واثنان من زملائي في وزارة الخارجية الأميركية أن ندخل سوريا، كما لم يكن لدينا حراس شخصيون أميركيون، إذ لم يكن معي حينذاك سوى وسيط من المخابرات التركية. ولكن إذا تمكنا من جمع حكومة نظام الأسد مع المعارضة على طاولة المفاوضات في يوم من الأيام، فلابد لنا أن نطلب من الجيش السوري الحر أن يقبل بتقديم تنازلات عند نقطة معينة. ثم إن خلق الثقة لديهم يعني أن أثق بهم، لذا سألت التركي إن كان يمانع في حال توجهنا إلى ذلك البناء، فهز كتفيه دلالة عدم تدخله في ذلك الأمر، فجرت الأمور على خير ما يرام.
وبمجرد أن اتخذ كل منا مجلسه داخل ذلك البناء برفقة عشرين مقاتل من جماعة العكيدي أخذ هذا الرجل يطلق عبارات عامة للترحيب بنا، ثم أفسح المجال لغيره من المقاتلين السوريين الذين أخذوا يمطرونني بالأسئلة حول عدم تقديم الأميركيين للمزيد من الدعم بهدف دعم قضيتهم. وفي خضم ذلك النقاش، سمعنا صياحاً في الخارج، ثم أتى ضابط وسحب معه العكيدي إلى خارج المبنى، ثم سمعنا صراخاً أعلى من قبل، فتوجهت إلى النافذة لأرى العكيدي يتشاجر مع شابين يرتدي كل منهما معطفاً عسكرياً، وبنطالاً مدنياً، ولكل منهما شعر ولحية طويلان (فالفرق بينهما وبين فريق العكيدي كان شاسعاً) لم أتمكن من سماع أي كلمة مما صرخ به الشابان في وجه العكيدي. غير أن أحد رجال العكيدي وقف معي عند النافذة وأخذ يشرح لي بأن هذين الشابين ينتميان لصقور الشام وهي جماعة إسلامية متشددة تقاتل بالقرب من حلب، حيث أخذ أحدهما يصرخ ويقول بأن مقر شقيقه قد تعرض لغزو في ذلك اليوم وقتل شقيقه إثر ذلك، لذا أخذ يلقي باللوم على العكيدي لاحتفاظه بالذخيرة وتكديسها.
وبعد دقائق معدودة تمكن العكيدي من تهدئة الشابين، ثم عاد إلى الداخل، وبدأ يقدم أعذاره ويقول إنه من الصعب السيطرة على كل الشباب. يمكن أن يكون كل ذلك مجرد استعراض مرتب أمامنا، لكنني لم أقابل خلال العقود التي أمضيتها في الشرق الأوسط شخصاً يتمتع بمنزلة اجتماعية يتمتع بها عقيد في الجيش يتعرض لمكيدة مدبرة عمداً للنيل من كرامته أمام جمهور عريض يضم أجانب وأشخاص من أهل البلد. ولهذا عندما رجعت إلى واشنطن سردت ما جرى وأكدت على أن الشابين انتهكا القواعد الثقافية المتعارف عليها، إذ لم يعيرا أي اهتمام لمكانة العكيدي الرفيعة في المجتمع السوري بوصفه عقيداً في الجيش ومنزلته الاجتماعية بوصفه أكبر منهما سناً، وأكثر منهما خبرة. كما نبهت إلى أن السوريين لم يصفوا انتفاضتهم بالثورة من فراغ، وخلصت إلى القول بأن القادة العسكريين من أمثال العكيدي لن يعمروا طويلاً إذا لم نقدم لهم المزيد من الدعم في السباق على النفوذ والسيطرة ضمن صفوف المعارضة المسلحة. إلا أن الرد الرسمي الوحيد الذي وصلني كان عبارة عن توبيخ وجهه لي المكتب الأمني التابع لوزارة الخارجية لأنني خرقت توجيهات الوزارة بدخولي إلى سوريا دون ضابط أمن أميركي.
في ذلك الربيع لم تكن واشنطن على استعداد للالتزام بشكل أكبر بالنزاع السوري، كما عانت المعارضة المسلحة من ضربة حقيقية عندما استولى حزب الله على مدينة القصير التي كانت بيد الثوار والتي تقع بالقرب من الحدود اللبنانية وذلك في أيار/مايو من عام 2013. وخلال ذلك القتال الضاري، عاد مقاتلو النصرة ليستولوا على عدد من المعابر على الحدود مع تركيا بعدما أصبحت بيد الجيش السوري الحر، وبذلك أصبح بوسع هؤلاء المقاتلين أن يفرضوا ضريبة عند السماح للشاحنات بالدخول، فضمنوا بذلك تدفق الإيرادات بشكل ثابت. بينما نجح العكيدي ومقاتلوه في تثبيت خط قتال ضد الجيش السوري في حلب وواصلوا حصارهم الذي امتد لأشهر على قاعدة منغ الجوية بالقرب من حلب. وفي صباح أحد الأيام في مطلع شهر آب/أغسطس، وصلت إلى المكتب في وزارة الخارجية لأجد تقارير تفيد بسقوط قاعدة منغ أخيراً مع صور للعكيدي وهو يقف بجانب قائد ميداني من تنظيم الدولة وهو أبو جندل المصري ليحتفلا بالسيطرة على تلك القاعدة العسكرية. كنا حينذاك نسعى جاهدين لعقد مفاوضات بين المعارضة والنظام، غير أن التعاون بين أصدقائنا في الجيش السوري الحر مع عناصر من تنظيم القاعدة وفروعه كان بوسعه أن يدمر كل الجهود التي بذلناها، ولهذا أتت تلك الصور كلعنة ونقمة. تواصلت مع العكيدي عبر الهاتف وهو في حلب وأخبرته بأن هذا النوع من التعاون من شأنه أن يضر بسمعة الجيش السوري الحر بشكل كبير في واشنطن وغيرها.
عندها انفجر العكيدي وأخذ يطلق الشتائم التي لابد وأن تطرب لها حكومة النظام وداعميها من الروس والإيرانيين لو سمعوها. بيد أن لغتي العربية لم تكن جيدة بما يكفي لألتقط أدق التفاصيل حول أجزاء الجسم ووظائفها المحتملة، لكنني فهمت من تقريعه الصارخ بأنه خاض قتالاً ضارياً ضد قوات النظام التي تتمتع بقوة كبيرة، وبأن الأميركيين لم يقوموا بأي شيء من شأنه أن يساعده في ذلك القتال، كما لا يمكن اعتبار الوجبات الجاهزة التي قدمتها الولايات المتحدة بأنها نزر يسير من الدعم. وقال لي بشكل مباشر: إذا لم يكن الأميركيون على استعداد لتقديم المزيد عندها يتوجب عليهم أن يخرسوا، أما هو فقد كان يحاول أن ينجو بجلده، هذا ما أكده لي. تذكرت وعيده وتهديده عندما شاهدت فيما بعد مقاطع فيديو له وهو يمتدح النصرة وداعش. لم يكن العكيدي متطرفاً إسلامياً، لذا كانت تلك الرسالة محاولة من قبله لدرء أي هجوم متطرف قد تتعرض له قواته التي ركزت على محاربة النظام، لكنها فشلت، وذلك لأن الجهاديين وبفضل مواردهم الكبيرة لابد وأن يتفوقوا في النهاية عليه وعلى من يفكر بعقليته من ضباط الجيش السوري الحر.
ظلت الولايات المتحدة تعبر عن قلقها وخوفها من أن تقع تلك الأسلحة الصغيرة في حال تم تزويد مقاتلي العكيدي بها في أيدي المتطرفين عند احتدام المعركة ولهذا السبب أحجمت عن تقديم مساعدة حقيقية. إلا أننا بحرماننا لأشخاص من أمثال العكيدي من الدعم الذي يفيدهم، خلقنا نبوءة حققناها بأيدينا، إذ في أواخر عام 2015، تم تهميش هؤلاء القادة مع مقاتليهم، ثم إزاحتهم بشكل نهائي على يد مجموعات تتبنى أجندات طائفية، وترفض المفاوضات السياسية التي لم يعد بالإمكان عقدها، تدعمها دول عدة، بل حتى النظام السوري نفسه أصبح يدعمها ويساندها هو أيضاً.
واليوم تحول العكيدي وسليمان إلى لاجئين في تركيا، إلا أنهما كانا أوفر حظاً من رزان التي بقيت في الغوطة الشرقية إلى أن تم اختطافها برفقة ثلاثة من زملائها في شهر كانون الأول من عام 2013 على يد مقاتلين إسلاميين، أي الأعداء عينهم الذين توقعت رزان أن تخوض القتال ضدهم في نهاية الأمر. وهكذا اختفى الأربعة، ثم تم العثور على جثثهم بعد مرور أكثر من عامين على استعادة النظام للسيطرة على الغوطة الشرقية التي لجأ إليها هؤلاء. لقد شاركت رزان ملايين السوريين في آمالهم ببناء مستقبل أفضل لسوريا في عام 2011، كما شاطرت آلاف المدنيين المختطفين والمختفين في الحرب مصيرهم. كانت رزان أصلب الشخصيات التي التقيت بها خلال السنوات الثلاثين التي أمضيتها في المنطقة وأشدهم حصافة وبصيرة.
لقد بدأ الرجعيون في محاولاتهم إعادة كتابة تاريخ الانتفاضة السورية التي انطلقت في عام 2011، فاتهموا الحركة الاحتجاجية بمسحة طائفية قوية شابتها منذ البداية، وبأن الأميركان هم من حرضوا على التظاهر لإسقاط الأسد، وذلك تحريف خاطئ يجرد شخصيات سورية اتسمت بالجرأة والتميز من القوة التي دفعتهم إلى مواجهة أحد أكثر الأنظمة وحشية خلال الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية. ويرى البعض أنه كان من الأفضل للأميركيين أن يبتعدوا عن أي تعبير عن الدعم للحركة الاحتجاجية وللمعارضة في سوريا، وإنني إذ أتفهم شعورهم، إلا أننا لم نمد يد العون لهم كثيراً في قضيتهم من كل بد. ولكن هذا يبدو كمن يقول للأميركيين من أمثالي أن عليهم أن يغلقوا أفواههم ويبقوا كذلك أثناء قيام النظام بذبح آلاف السوريين من ذوي الأصل الطيب. أما أن نقول إنه كان لابد من إجراء مفاوضات مع حكومة الأسد فهذا الكلام يبدو عذراً أقبح من ذنب، فلقد حاول المعارضون السوريون وكذلك الولايات المتحدة على مدار سنين أن يأتوا بالجميع بمن فيهم الإيرانيون إلى جنيف في شهر كانون الثاني وشباط من عام 2014، إلا أن حكومة الأسد أوضحت أنه لن يكون هنالك أي تفاوض سياسي. لذلك يتعين على كل من يتمثل حكمة سياسية عليا أو قيماً أخلاقية مثلى أن يتحلى بالصدق على الأقل حيال تداعيات الموقف الذي يفضل الانحياز إليه