جسر: متابعات:
لم يخفض إعلان تشكيل اللجنة الدستورية في سوريا من صعوبة الأسئلة حول إمكانية سلام سوريا في ظل استمرار الأسد في السلطة . وقد سارع بعض الأطراف المعارضة ، فور إعلان اللجنة، إلى بلورة العديد من الأسئلة حول ما يحمله تشكيل اللجنة من مخاطر على إمكانية السلام الحقيقي في سوريا، الذي يتلهف إليه السوريون وكل شعوب المنطقة . بل وذهب بعض هذه الأطراف إلى الحديث عن ما يمثله إعلان تشكيل اللجنة ذاته من مخالفة للقرار الأممي 2254 ، وما نص عليه من تشكيل حكم إنتقالي يتولى مقاليد السلطة ووضع دستور جديد للبلاد ، تجري بموجبه إنتخابات تشريعية ورئاسية .
لكن الأصوات المعارضة هذه ، التي ارتفعت منتقدة لتشكيل اللجنة ، لم تغلق الباب أمام الإمكانيات الإيجابية ، التي قد يحملها تشكيلها على إنهاء المقتلة السورية ، إنما اعتبرت أن المعركة مع النظام وحماته الروس والإيرانيين حول الدستور السوري سوف تكون طويلة وعسيرة . ومن بين الإيجابيات ، التي تُسجل لهذه الخطوة ، تتمثل في تولي المنظمة الدولية تشكيل اللجنة والإشراف على عملها ، بعد أن كانت روسيا قد حاولت منفردة في مطلع العام 2017 فرض دستور على السوريين يلغي طائفية الرئيس، ويعترف بشرعية الرئيس الأسد حتى انتهاء مدته المقررة في دستور العام 2012 ، ويقر بحقه في الترشح من جديد وفق نصوص الدستور المقترح .
لم يتسن للمعلقين الروس بعد التعليق على اللجنة الدستورية المعلنة ، لكن ما كان كتبه بعض هؤلا، حتى في المواقع والصحف الدائرة في فلك الكرملين قبل إعلان اللجنة بأيام ، تحدث عن صعوبة السلام في سوريا ، بل وشبه استحالته في ظل بشار الأسد . فقد كتب أحد كبار الباحثين في معهد الإقتصاد الدولي والسياسة العالمية التابع للأكاديمية الروسية في 20 من الجاري في صحيفة “NG” مقالة بعنوان ” السلام على الأرض السورية يبدو مستحيلاً” ، قال فيها ، أن الأسد يبقى أسيراً للطائفة العلوية وآيات الله الإيرانيين . وأشار إلى أن جميع محاولات القيادة الروسية في تذليل الخلافات بين الأسد والمعارضة ، والإنتقال إلى المرحلة التالية من تسوية الوضع في سوريا ، قد باءت حتى الآن بالفشل . وقال بأن الكل يحاول حشر مؤيديه في اللجنة الدستورية، التي لا تأخذ بالإعتبار مصالح 8 ملايين مهجر خارج سوريا، و8 ملايين سوري لا يعيشون في المناطق الخاضعة لسلطة دمشق و3 ملايين كردي سوري.
وبعد أن يشير الكاتب إلى بقاء الأكراد خارج عملية التفاوض ، يقول الكاتب بأنه لم تصدر حتى الآن من جانب الأسد أية إشارة إيجابية تجاه مواطنيه من الأكراد والسنة . وبدلاً من ذلك لا تصدر عن دمشق سوى التهديدات باستخدام الحل العسكري لمعالجة المسألة الكردية ، وتحرير شرق الفرات بمساعدة المرتزقة . وتواصل الخارجية السورية تكرار المقولات ، التي فقدت معناها منذ زمن بعيد حول رفض تقسيم سوريا ورفض أي شكل من اشكال الحكم الذاتي أو الفدرلة . وليس من المستبعد أن يكون الأسد والجناح الأكثر براغماتية في محيطه يدركون، أن الحل العسكري للأزمة السورية الداخلية غير موجود ، ولا يمكن أن يوجد . لكنها عظيمة ، برأيه، قوة الخمول الفكري لدى الطائفة العربية العلوية والنخبة البعثية، التي تفردت بالسلطة في سوريا . وإذ يستند الأسد إلى بعض الفرق العلوية وبقايا الجيش والأجهزة الأمنية المتعددة ، يجد نفسه مجبراً على اللعب وفق المعايير السابقة للدولة العسكرية البوليسية، حسب الكاتب.
ويرى الكاتب أن العامل ، الذي لا يقل تدميراً لسوريا في المرحلة الراهنة ، يتمثل في التدخل الواسع لطهران وملحقاتها في الشؤون الداخلية السورية . وإذ خصص آيات الله الإيرانيون حوالي 10 مليار دولار ، حسب تقديره ، للحفاظ على عائلة الأسد وجهاز الدولة والأجهزة الأمنية ، فهم ينظرون إلى الأسد على أنه دميتهم الخاصة ، ويعتبرون أن من حقهم التدخل في سياسة دمشق الداخلية والخارجية .
ولذلك يقول الكاتب ، أنه من المستبعد أن نتوقع توقف المواجهة الشرسة في سوريا بين القوى الداخلية (الأسد ، المعارضة ، المسلمون الراديكاليون) واللاعبين الخارجيين الأساسيين (إيران ، تركيا ، الولايات المتحدة ، روسيا) . فكل مجموعة أو بلد يتوخى في سوريا أهدافه الخاصة ، التي ليس فقط لا تتطابق في ما بينها ، وبل وغالباً ما تكون متناقضة . ومسألة وقف الحرب والحل السلمي للأزمة السورية مؤجلة إلى زمن غير محدد وتغوص إلى الأعماق أكثر . وهو يرى أن الخروج من المأزق السياسي السوري يكمن في انسحاب الجميع من سوريا ، وعلى رأسهم المرتزقة والقوات الإيرانية والتابعة لها . ويقترح نشر قوات تابعة لمجلس الأمن الدولي على الحدود الدولية لسوريا وبين الجيوب، التي تتبلور عملياً في البلاد .
من جهة أخرى ، تنقل الدورية الروسية “روسيا في السياسة الدولية” ، التي تصدر بالتعاون الإعلامي مع الدورية الأميركية ” Foreign Affairs” ، عن نائب رئيس المجلس الروسي للشؤون الدولية قوله ، بأن التجربة العالمية في الحروب الأهلية تفيد ، بأن الإنتصار الشامل لأحد أطراف الحرب، لا يضمن إقامة السلام إذا ما بقيت دون حل القضايا ، التي اندلعت الحرب من أجلها ، وبقي الأطراف الآخرون على عدائهم للمنتصر ، وينطبق هذا كلياً على سوريا.
في بحث مطول له عن الأزمة السورية بعنوان “عبر الأشواك نحو السلام” نشره في الدورية المذكورة أوائل الشهر الجاري يقول الكاتب ، بأن روسيا قد حققت الكثير من أهدافها الإستراتيجية ، التي وضعتها أمام حملتها السورية . وبعد أن يذكر الكاتب عدداً من هذه الأهداف ، ومن بينها بالطبع ، تأكيد موقع روسيا كدولة عالمية، يتساءل : وماذا بعد ؟ كيف سيكون تراتب الخطوات التالية بين الدبلوماسية والعمليات الحربية؟
يقول الكاتب ، أن ميزان القوى المستجد على الأرض يشير إلى انتهاء المرحلة العسكرية من الصراع، وبروز الشروط الضرورية للتقدم في التسوية السياسية ، التي يمكن أن تكون تسوية طويلة الأمد ، أو تقليداً للتسوية يرتكز إلى إصلاحات سطحية . ومصلحة روسيا تكمن في التوصل إلى تسوية تقوم على اسس راسخة ، وذلك انطلاقاً من الإدراك أن هيكل سوريا السياسي لا يمكن أن يبقى كما كان عليه قبل الحرب. فالواقع العسكري المستجد ينبغي أن يترسخ ببناء هيكل للسلطة يرتكز إلى قاعدة واسعة تمثل مصالح الطيف العريض للقوى السياسية ، بما فيها مصالح الأكثرية السنية ، وإلا فإن ثمار النصر العسكري سوف تتبخر مع الوقت. ومن مصلحة روسيا ، برأيه ،أن تستعيد سوريا علاقاتها ليس مع محيطها فقط ، بل ومع العالم الخارجي ككل ، وأن تستند التسوية إلى توافق دولي يعترف بشرعية النظام السوري، الذي أعيد تشكيله ، ويعترف بالوجود العسكري الروسي في سوريا،علماً أن لدى موسكو، برأيه ، ما يكفي من الإمكانيات العسكرية السياسية من أجل تأمين مصالحها في سوريا ، من دون سلوك طريق المجابهة .
ويخلص الكاتب إلى القول ، بأن إذابة جليد العداء والكراهية بعد كل هذه الضحايا والمآسي الإنسانية، يستحيل دون بذل الكثير من الجهود المضنية والمتواصلة . فهل تكون اللجنة الدستورية خطوة أولى في إطار مثل هذه الجهود ، أم يبقى سلام سوريا عسيراً ، إن لم يكن مستحيلاً ، كما غالبية صراعات الشرق الأوسط؟
المدن 25 أيلول/سبتمبر 2019