جسر – إدلب (عطاء البحري)
كسوار من الخضرة، تحيط بمدينة إدلب كروم الزيتون التي تراها على امتداد بصرك، في حين تضرب جذورها في هذه الأرض الطيبة ممتدة إلى عمق تاريخ طويل، أُلصق خلال قرونه اسم محافظة إدلب الخضراء بزيتونها الشهير والمعروف ليس في سوريا فقط، بل في دول المنطقة والعالم.
عراقة في التاريخ
يقول العم أبو حسيب، إنّه بلغ من العمر ثمانين عاماً، ومنذ أنْ جاء إلى هذه الدنيا يعرف تلك الأشجار التي يعتبرها بمثابة أحد أولاده، ولدى سؤاله عن تاريخ الزيتون بإدلب، أجاب بأنه قديم، قديم جداً، وبعض الأشجار يبلغ عمرها أكثر من ألفي عام، لكن أكثر الأشجار المعمّرة موجود بأرياف المحافظة، وسبب ذلك أنّ المدينة تعرّضت لموجة من الجفاف في أربعينيات القرن الماضي، السبب الذي أدى إلى يباس الأشجار، ومن ثم تم تجديدها بعد ذلك، بتشجيع من أحد ولاتها في عهد العثمانيين وقد كان يحب أشجار الزيتون لدرجة كبيرة، ما جعله يشجع الأهالي على زراعتها ويقدم لهم بعض المساعدات لقاء زراعتهم لها.
الموظف السابق في مديرية الزراعة “محمد ش ” أخبرنا أن عدد أشجار الزيتون في محافظة إدلب يبلغ حوالي 14 مليون شجرة، منها ما يقارب 13 مليون شجرة مثمرة، فيما يعتبر الباقي مجهول الهوية لاتحمل ثماره المواصفات المطلوبة.
زيتون متعدد الأنواع
ولاينحصر الزيتون بنوع واحد، حيث يوجد منه أنواع عديدة، وكل نوع يستخدم بشكل مختلف، فبعضه يقطف ويُنقل إلى المعاصر لاستخراج الزيت منه مثل الزيتون “المعرواي”، وبعض الأنواع يفضل الأهالي أكلها كثمار بدلاً من عصرها. ومن أنواع الزيتون المعروفة في محافظة إدلب “المعري”، و”الحمراوي”، و”الحمصي”، و”الصوراني”.
ويأتي الزيت على رأس منتوجات أشجار الزيتون، ولا يخلو بيت في محافظة إدلب من تخزينه كمؤونة تستهلك على مدار أيام السنة، إذْ يشكل الزيت مادة رئيسية على موائد سكان محافظة إدلب.
ويستخلص الزيت من ثمار الزيتون بعد نضجه تماماً، بواسطة معاصر حديثة تعالجه ليتحول إلى مادة سائلة معبأة في كالونات معدنية في أغلبها، تسمى محلياً بـ”التنكة”. ويبلغ عدد معاصر الزيتون في محافظة إدلب حوالي 120 معصرة موزعة على مدينة إدلب، وريفها، وتنتج حوالي 70 ألف طن سنوياً من زيت الزيتون.
وتقاس جودة الزيت بحسب درجة الأسيد التي تترواح من 1 درجة إلى 10 درجات يعتبر أقلها هو الأفضل، أما المواد المتبقية من الثمار بعد عصرها، فلها استخدامات عديدة من أهمها، صناعة صابون الغار الشهير، التي تميزت مدينة إدلب بصناعته بسبب الانتشار الواسع لأشجار الزيتون فيها.
صابون الغار
ولصناعة الصابون في إدلب عراقتها، وثمة عائلات اختصت بهذه الصناعة على رأسها عائلة “الصناع”، الاسم الذي يحمل علامة المنتج التجاري.
ويصنع الصابون من الزيت المستخلص من مخلفات ثمار الزيتون التي عصرت وتم استخراج الزيت منها، حيث تعصر مرةً أخرى لاستخدام ناتج العصر من جديد في صناعة الصابون، بعد إضافة مواد كيميائية له، أهمها كلورات الصوديوم، أو ما يعرف بـ “القطرونة”، مع إضافة مواد عطرية أخرى على رأسها “الغار” الذي يُعطي اسمه للصابون المنتج.
ومن الطريف أن سكان محافظة إدلب يفضلون صابون الغار على أيٍ من أنواع الصابون الأخرى مهما كان نوعها جيداً، وفي حال استخدامهم لنوع آخر من الصابون، فهم لايستغنون بأي شكل من الأشكال عن استخدام صابون الغار.
فوائد أُخرى للزيتون في إدلب
المواد المتبقية بعد عصر ثمار الزيتون مرة ثانية، تعالج في معامل خاصة ويتم تحويلها إلى مكعبات يجري تجفيفها لاستخدامها بوقود للتدفئة أثناء فصل الشتاء أو لاستخدامها في عمليات الشواء كنوع من أنواع الفحم، وتعرف بالبيرين.
ولا تنتهي استخدامات وفوائد أشجار الزيتون عند هذا الحد، حيث يلجأ السكان إلى استخدام أغصانه المقلمة كحطب لمواقدهم، بغرض التدفئة أو الطهي، أو الخبز والشواء.
أما لحاء أشجاره وأوراقه، فلها استخدامات طبية، تستفيد منها معامل الأدوية في تصنيع المستحضرات والأدوية الطبية.
الزيتون الأخضر في اليوم الأسود!
لابد من الإشارة إلى أنّه كان لشجرة الزيتون دوراً إيجابياً مهماً بعد انطلاق الثورة السورية وما كان لها من ارتدادات عسكرية، واقتصادية صعبة، على حياة الأهالي ومئات الآلاف من النازحين القاطنين في إدلب، حيث وفّرت أشجار الزيتون مصدراً غذائياً مهماً لسكان المحافظة، إذْ يعتمد الناس على منتوجاتها كأحد مصادر الغذاء الرئيسية، ويُقال في إدلب إنه “إن توفر الخبز والزيت، فلا فقر في البيت”.
فضلاً عن ذلك، فالزيتون يوفر فرص عمل كثيرة في المحافظة للنساء والرجال على حد سواء، وفرص العمل تبدأ بالزراعة والسقاية، ومروراً بالقطاف والعصر، وانتهاءً بالتجارة والتوزيع.
وهكذا هي شجرة الزيتون، كما وصفها العم “أبو حسيب”، فائدة مطلقة، نأكل من زيتها وزيتونها، ونتدفأ على حطبها، ونعالج أمراضنا بأوراقها.
يقول “أبو حسيب”: “الزيتون وإدلب توأمان لايستغني أحدهما عن الآخر، فحيثما تذكر إدلب يذكر الزيتون، وحيثما يُذكر الزيتون تذكر إدلب معه”.