عبد الناصر العايد
في كتابه الجديد “سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية”، يحاور الباحث والسياسي السوري، برهان غليون، أنداده من المفكرين والفلاسفة العرب الذين شغلهم سؤال النهضة على مدى قرنين من الزمان، ويعيد طرح الأسئلة الكبرى عليهم ومعهم، مستعرضاً أبرز الإجابات التي يتفق مع بعضها ويعارض بعضها الآخر ويفند جزءاً منها، ليخلص في النهاية إلى وضع ردّه على الإشكالية العتيدة: لماذا تقدم الآخرون وتأخرنا؟ وكيف للعرب أن يعودوا إلى التاريخ؟
والكتاب، بهذا المعنى ولهذا السبب، صعب، لأنه قراءة نقدية جدلية في العمق، وحوار بين مفكرين وفلاسفة كرسوا حياتهم للبحث والغوص في موضوعاتهم، يصوغها في النهاية أحد هؤلاء، وهو الدكتور برهان غليون الذي قضى نحو 60 عاماً من حياته، مُنكباً على العمل على هذه القضايا والإشكاليات كاتباً وباحثاً، وسياسيا بشكل مباشر لفترة وجيزة من حياته، ليخلص إلى رؤية تستبطن معظم التجارب والأفكار والنظريات التي اختبرت في القرنين الماضيين، لا سيما تجاربه الخاصة الفكرية والسياسية.
إن عرضاً وتلخيصاً شاملاً للكتاب غير ممكن، لذلك سأعمد إلى تفحص واحد فقط من وجوهه الأكثر بروزاً، وهو ما بدا تقريعاً للنخبة العربية، وتبكيتاً لها، خصوصاً جيل ما بعد الاستعمار، سواء بسبب منتجها الفكري، أو سلوكها ومنهجها الذي أدى في النهاية إلى القطيعة والانفصال عن المجتمع، وترك الشعوب من دون رأس مفكر ومسؤول، لتبحث عن طريقها الخاص بنفسها وبأدواتها، الأمر الذي كان أحد تجلياته انفجار ثورات الربيع العربي.
فغليون يواصل في هذا الكتاب معاكسة الطروحات السائدة بين أقرانه من المفكرين العرب المعاصرين، ويقول إن الوقائع والتحولات في عالمنا العربي والإسلامي لم تنجم عن استثناء قائم في ثقافة أو تراث أو شخصية مجتمعاتنا، بما في ذلك ظاهرة صعود التيارات الإسلامية العنيفة والنازعة للتطرف. وتأخُّر مجتمعاتنا لا يمكن أن يُفهم بمعزل عن الأزمة التاريخية العميقة التي دُفعت إليها بعد إخفاق مشاريع التحديث، وهذا استمرار لأطروحته التي قدمها في أكثر من عمل سابق، والتي تقول إن البُنى القديمة قد تحطمت بالفعل أمام زحف الحداثة. لكن تحلل الأشكال القديمة لم ترافقه عملية بناء أو تأليف لمنظومة جديدة من الأفكار والقيم والمؤسسات التي يمكن أن تؤدي الوظائف التي كانت تشغلها تلك، وهو الأمر الذي يمكننا رؤيته في مؤسسة الدولة التي تعتبر أكبر مؤسسات الحداثة وأداتها الرئيسية. كما يمكن رؤيته في مجال الدين الذي لم يُسفر تراجعه أو انسحابه عن قيام مؤسسات عقلانية أو مستلهمة للعقلانية الحديثة لتملأ الفراغ وتؤدي الوظائف التي كانت تؤديها النظم التقليدية. والأمر عينه ينطبق على الاقتصاد والتقنية والعلوم وغيرها، ما يدعو من وجهة نظره إلى قلب الرؤية والكفّ عن البحث في التراث عن تفسير التخلف الحضاري الراهن، والبحث بدلاً من ذلك في الشروط التاريخية لاندماج المجتمعات المتخلفة في الحداثة، ونوعية النخب الاجتماعية التي قادتها واستراتيجيتها، وسياسة الدول الصناعية الكبرى أيضاً. فالاستثناء من وجهة نظره ليس في إن مجتمعاً أو شعباً غير قادر على استيعاب الحضارة والحداثة، بل في تمسك الدول المتقدمة بوضعها الخاص المسيطر وتفوقها ومنع ظهور قوى منافسة لها، وعدم تردد الدول المتقدمة في تحطيم أي مشروع تحديثي وطني مستقل.
المشكلة، من وجهة نظر غليون، ليست في علاقة المجتمعات بالتراث، بل في علاقتها بالحداثة، ولذا فإن الكتاب يركز على إشكاليتين: الأولى، سياسات الدول الكبرى واستراتيجيتها التي بُنيت على استقطاب بنيوي بين مجتمعات متقدمة مركزية وأخرى طرفية متخلفة والإشكالية. والخط الثاني الذي تتبعه غليون، هو الخيارات السياسية والاستراتيجية للنخب التي سيطرت على السلطة وأدارت عملية التنمية في البلاد المتخلفة، ومنها بلداننا. ويقول الكتاب إن هذه النخب أدركت عجزها عن بناء الدولة -الأمة التي يسودها منطق المواطنة، فتحولت، سواء كانت نخباً عسكرية أو مدنية، إلى الالتحاق بالدول الكبرى التي تضمن حمايتها من شعوبها، وهكذا ظهر الشكل الذي يصفه غليون بالحداثة الرثّة.
وعلى الرغم من توصيفه لنظام وصاية رباعي تعانيه مجتمعاتنا، وهي وصاية الغرب على النظام الدولي، والنخب الحاكمة على الشعوب، والمثقفين على الجمهور، والوصايا الروحية لرجل الدين على ضمائر المؤمنين، إلا أن غليون يركز من دون انقطاع على المثقفين والمفكرين، وينتقد اهتمامهم المبالغ فيه خلال نصف القرن الماضي بنقد التراث الديني، وربطهم النهضة بثورة ثقافية وفكرية تسبقه. فهو يجد أن التجارب التحديثية، كما حدثت في اليابان أو في حقبة محمد علي في مصر، لم ترتكز على فلسفة عقلانية بالضرورة، كما أن رجال الدين لم يعترضوا عليها، وهي اعتمدت على البصيرة والحس السياسي التاريخي للنخبة السياسية.
ويضرب مثالاً آخر معاصراً هو الدولة السعودية التي اعتمدت منذ نشوئها على الأيديولوجيا الوهابية، واعتبرت مشروعها إقامة الإسلام الصحيح، لكن تاريخها يكشف إلى أي مدى كان المتحكم فيها هو السياسة والسلطة السياسية، لا الدين ورجاله، ابتداء من حقبة المؤسس عبد العزيز بن سعود الذي سمّى الدولة باسم عائلته لا باسم الإسلام، وقتل اعضاء الجناح الأكثر تشدداً دينياً (مذبحة الإخوان) عندما اعترضوا سبيل سياسته. ويرى غليون إن السعودية لم تحتفظ بالأيديولوجيا الدينية إلا لمواجهة الحركات القومية واليسارية المنافسة في العالمين العربي والإسلامي، وهو التنافس الذي ما أن استشعر الأمير الشاب محمد بن سلمان انتهاءه حتى قام بانقلاب شامل يكاد يكون ثورة تحديثية. علما إنه ليس بمثقف ولا تنويري ولا من دعاة الحداثة، وليس فيلسوفاً أو صاحب رسالة ديموقراطية ولا مصلحاً دينياً، وإنما هو رجل دولة أو سياسي وجد من مصلحة الحكم أن يقوم بذلك. وهو الأمر الذي لم يجد أي اعتراض أو مقاومة تُذكر من رجال الدين أو الفقهاء أو المتدينين، بل أن الطبقة الوسطى انخرطت في العملية بحماس، رغم أنها تعرضت في الأساس لتربية دينية قاسية.
المصدر: المدن