جسر: متابعات
لا تزال روسيا تحت وقع صدمة جريمة القتل المتوحشة ، التي ارتكبها أستاذ التاريخ (63 عاماً) في جامعة سانت بطرسبورغ بحق الطالبة عشيقته (24 عاماً) ، التي كانت تحضر رسالة الدكتوراه بإشرافه . فقد قام هذا المجرم المؤرخ ، الحائز على وسام جوقة الشرف الفرنسي لإنجازاته العلمية في التاريخ الفرنسي ، بقتل ضحيته في شقته ، وعمد إلى قطع رأسها وأطرافها بالمنشار ، ووضع اشلائها في حقيبة ظهر ، اكتُشف أمره حين كان يرميها في النهر فجر ليل الجريمة .
لم يمض أسبوعان على جريمة القتل المتوحشة هذه ، التي شغلت ، وما زالت، جميع قنوات التلفزة وأجهزة الإعلام الروسية ووسائل التواصل الإجتماعي ، حتى خرجت صحيفة “novaya” في 22 من الشهر الجاري بتحقيق مفصل عن شريط فيديو يصور جريمة قتل ، فاقت الأولى بربرية وسادية ، حيث قام القتلة بتصوير أنفسهم في الشريط ، وهم يستمتعون بصراخ الضحية الهستيري من ألم ضربات المطرقة ، ويتفننون في فصل رأس الجثة بالمجرفة والسكين وقطع اليدين ، ومن ثم تعليقها كالذبيحة وإحراقها على وقع الموسيقى وغناء القتلة . لكن هذه الجريمة لم تقع في روسيا ، بل في سوريا ، وضحيتها هو المواطن السوي محمد طه اسماعيل العبدالله ، ومرتكبوها هم عسكريون روس مرتزقة من مجموعة “فاغنر” ، التي يساهم في تمويلها “طباخ بوتين” يفغيني بريغوجين ، ووقعت في العام 2017 ، لكن لم يُفتضح أمرها سوى الآن ، ونقلت “المدن” عن موقع أوكراني التفاصيل المرعبة ، التي كانت متوفرة عن الجريمة في 19 من الجاري.
الجريمة الأولى وبروفسورها الأكاديمي ومنشاره ، هزت روسيا وشغلتها بالفعل ، لكن الجريمة الثانية ، التي صدمت وسائل التواصل الإجتماعي الروسية ، حاول إعلام الكرملين لفلفلتها ، حسب موقع “infonavigator” الأوكراني . صحيفة الكرملين “vz” لم تنشر مقالة حول الجريمة ، بل بثت شريط فيديو تحت عنوان ” الإعدام الوحشي في سوريا ألصقوه بالروس” ، وقالت أن اللغط يستمر حول شريط الفيديو ، الذي يظهر فيه أشخاص يتكلمون بالروسية يُعدمون بوحشية جندياً سورياً. وقالت أن الأشخاص ، الذين يظهرون في شريط الفيديو في لباس شبه عسكري ، لا يمكن التأكيد بأنهم ينتمون إلى الشركة العسكرية الروسية الخاصة “فاغنر” بالذات ، إلا أنهم ينتمون إلى واحدة من مثل هذه الشركات العسكرية الخاصة الكثيرة ، التي يتشكل منها الجيش السوري ، حيث يشكل كل أوليغارشي سوري جيشه الخاص ، الذي يحارب إلى جانب الأسد ، برأيها . وترى الصحيفة أنه ، بغض النظر عن السبب ، الذي دفع هؤلاء الأشخاص إلى تصوير شريط الفيديو ، ألا أن ظهوره يلقي الظلال على سمعة روسيا وجيشها ، ويلحق ضرراً جيوسياسياً بها في العالم ككل .
من جهتها نقلت صحيفة “novaya” صاحبة التحقيق عن الكرملين قوله بأن المشاهد ، التي يصورها شريط الفيديو حول إعدام السوري من قبل مقاتلي شركة “فاغنر” ، بأنها مشاهد “مرعبة فعلا” . وقال الناطق باسم الكرملين دمتري بسكوف ، بأنهم لا يملكون اية معلومات عن هؤلاء الأشخاص وليس لهم اية علاقة بهم ، ورفض أن يكون لكل ذلك علاقة بالعملية العسكرية الروسية في سوريا ، أو بعمل القوات المسلحة الروسية ووحداتها ، التي تعمل بموجب أوامر القائد الأعلى. وبعد أن كانت الصحيفة قد نقلت عن بسكوف رفضه الإجابة عن السؤال عما إذا كان الرئيس بوتين يعتبر أن من الضروري إجراء تحقيق حول ما حدث ، عادت ونقلت عنه لاحقاً قوله ، بأن الأجهزة المختصة ترى كل هذه الأنباء وتدقق في مدى صحتها ، وتتخذ القرارات المناسبة على ضوء ما تتوصل إليه .
كان من اللافت أن كبريات الصحف السياسية الروسية لم تأت على ذكر الموضوع من قريب أوبعيد ، واقتصر الأمر على بعض المواقع الإخبارية غير الرئيسية ، والمواقع الغربية الناطقة بالروسية او المحلية المعارضة . فقد نشر موقع “Forum.msk.ru” المعارض مقالة موجزة حول التحقيق بجريمة مرتزقة “فاغنر” في سوريا ، وعلقت هيئة التحرير على الأمر بالقول ، بأن هذه ليست جريمة الحرب الأولى ، التي يرتكبها مرتزقة بريغوجين (طباخ بوتين وممول مرتزقة “فاغنر”) ، بل صدف أنها هي ، التي صُورت على شريط فيديو . وقالت حين تحظى بتغطية مسؤولين رفيعي المستوى بهذا القدر ، يمكنك أن تنشط بشكل مكشوف دون أن تخشى أحداً. ويتهم الموقع أجهزة الإعلام الرسمية بمساعدة هؤلاء المرتزقة على خلق هالة من البطولة حول أنفسهم في الخارج ، حيث “نهرق الدماء العدوة من أجل روسيا بوتين” . إلا أن صورة منظمة المرتزقة الخاصة هذه ، هي ، بالرغم من ذلك، صورة مختلفة عن تلك التي يساعد “تلفزيون بوتين” في رسمها لها ، حسب الموقع .
وعلى العكس من الصحف والمواقع الإخبارية الرسمية ، التي تحاشت التعليق على صور المرتزقة وهم يرتكبون جريمتهم الوحشية في سوريا ، انفجرت مواقع التواصل الإجتماعي الروسية بالتعليقات المدينة لجريمة هؤلاء القتلة “اللابشر”، والرافضة لتصديق ما تبرزه الصور من سادية ووحشية . وعلى غير عادتها في عدم تفويت أية فرصة للهجوم على سلطة الكرملين ، لم تكتب إذاعة “الحرة” الأميركية الناطقة بالروسية أي مقالة حول شريط الفيديو المعني، واكتفت بجمع عدد من تعليقات الروس على شبكة الإنترنت تحت عنوان “وفق تقاليد داعش : “الإنترنت الروسي (ru.net) عن فظائع المرتزقة في سوريا” .
ناشط : لقد جعلوا من سوريا حقل تجارب . فاشيون يرتاحون . هؤلاء هم جماعتنا ، روس ، سفاحون بوتينيون.. جيش التحرير البوتيني جاء يحرر سوريا من “الدولة الإسلامية” . سوف يحررونها . انتظروا.
ناشط : جماعة الخارجية والرئيس يحبون كثيراً الحديث عن “كراهية روسيا” ، التي يعممها في العالم أعداؤنا الخبثاء ، والتي يزعمون أن ليس من أسباب موضوعية لها … حقيقةً ، لماذا لا يحبنا العالم نحن الروس ، ونحن على هذا القدر من اللطف …
ناشط : روسيا البوتينية ، هي “نظام هجين” أم ديكتاتورية فاشية كاملة المواصفات ؟ سوف نعلم قريباً، لأنه إذا كانت قد بقيت ولو نقطة من الحياة السوية في روسيا ، يجب أن تخضع مثل هذه الفظائع لأكثر التحقيقات جدية ، ومن ثم المحاكمة …
ناشطة : من جديد ، سوف يقولون بأن لا وجود لهم هناك ؟ يا للقذارة والعار …
ناشطة : وفق أفضل تقاليد داعش ، المحظورة بالشكل في روسيا ، لكن ليس في المضمون.
ناشط : بشكل عام ، ليس من مشكلة بالنسبة للشخص السادي أن يرتب أمور حياته جيداً في روسيا. تريد في القوى الأمنية ، تريد في الشركات العسكرية الخاصة ، لا مشكلة ، تفضل . والأمر اللافت هو أن رواتب الأشخاص الساديين ، هي أعلى من رواتب العلماء ، والضمانات الإجتماعية أفضل … وحصانتهم يحسدهم عليها أي نائب . هذه مفارقة شاذة ، بالطبع ، وانحراف في تطور المجتمع . من المهم أن تُنشر مثل هذه الأمور (مضمون شريط الفيديو) ، وإلا لن يشفى المجتمع في يوم من الأيام .
تلك بعض التعليقات على الجريمة الوحشية للمرتزقة الروس في سوريا ، والتي عبر فيها ناشطون روس عن مخاوفهم وهواجسهم مما يحمله إليهم “أبطال” شريط الفيديو ، الذين سيعودون ، أو قد عادوا ، للحياة بينهم في مدن روسيا وقراها. واللافت في معظم هذه التعليقات ، وفي الكثير سواها مما ورد في موقع “الحرة” وفي موقع الصحيفة الروسية صاحبة التحقيق ، هو التركيز على ما تعنيه هذه الجريمة بالنسبة لروسيا والروس ، لكن ليس بالنسبة للضحية نفسها ، وبالنسبة لسوريا والسوريين .
المصدر: المدن