انتهت العملية التركية المسماة “نبع السلام” إلى ما يمكن وصفه بسقوط مدوّ لطرفين سوريين مشاركين فيها. “الجيش الوطني”، وهو كيان يجمع فصائل موالية لأنقرة، كان إنشاؤه منذ البداية موجهاً ضد وحدات الحماية الكردية، ولا علاقة له بالتصدي لقوات الأسد، ناهيك عن مقاتلتها في أماكن سيطرتها. بصريح العبارة، كان هذا الكيان منذ استيلاده ساقطاً في أعين غالبية السوريين، وضمناً في أعين مناصريه الذين يدركون تبعيته المطلقة المخالفة لوطنيته المزعومة، وهناك نسبة عالية منهم تناصره بحكم ولائها لأردوغان ليس إلا.
وحدات الحماية الكردية سقطت عسكرياً مع رفع الغطاء الأمريكي عنها، وشهدنا تكراراً سريعاً لتجربة عفرين. الاستفادة الوحيدة من تلك التجربة هي في سرعة الانصياع للاتفاق الأمريكي-التركي، ما جنّبها وجنّب المدنيين خسائر فائضة لن تغيّر في النتيجة المقررة سلفاً. تصرفت قيادة وحدات الحماية بما يخالف قاعدتها الشعبية التي راحت تروّج لصمود ومقاومة يكلّفان أنقرة غالياً، واستعادتها العلاقة الدافئة مع الأسد هي بمثابة انتحار مؤجل، وتاريخ العلاقة بين الطرفين يؤشر إلى استعداده للتضحية بها وقت الحاجة، الاستعداد الذي لا يقل عن تلهفه لقمعها في كافة الأوقات.
قبل ذلك، من يذكر “الجيش الحر”؟ بصرف النظر عن كونه أشبه بتسمية مجازية، كانت هناك لوقت ما قيادة أركان تطرح نفسها ممثلة له، وبديلاً مستقبلياً عن قوات الأسد، وثمة فصائل تنسب نفسها إليه رغم استقلاليتها التامة، بما في ذلك استقلالية الحصول على الدعم المالي والإمدادات العسكرية. يوماً ما خرج رئيس الأركان ليطالب واشنطن بالسماح بوصول صواريخ مضادة للطائرات إلى فصائله، متعهداً بعدم وقوعها في أيدي فصائل إسلامية متطرفة. الضابط المنشق، الذي غابت سيرته بعد تنحيته من رئاسة الأركان، سيعاود الظهور تحت المظلة التركية إياها ولمناسبة العملية التركية شرق الفرات بعد أن لم يتبقّ أثر للجيش الحر.
أثناء استخدام اسم الجيش الحر، أنشئت جيوش تحت مسميات مختلفة، منها ما اتخذ الاسم صريحاً مثل جيش الإسلام، ومنها ما اكتفى بتسميات فصائلية. ما يجمع بينها أنها جميعاً نشأت على مفهوم الجيش التقليدي، وحازت أسلحة متوسطة وثقيلة تكون عادة في عهدة الجيوش. الأهم من ذلك أنها جميعاً بسطت سيطرتها على مساحات جغرافية، تتسع أو تضيق بحسب إمكانياتها، ووضعت قوانينها الخاصة في أماكن سيطرتها، أو تولت تنفيذ توجهاتها الاعتباطية على السكان من دون وجود قوانين صريحة ومعلنة.
بعد التقدم الذي أحرزته تلك الجيوش حتى خريف عام 2012، بدأت مسيرة الانحسار واستعادت قوات الأسد زمام المبادرة بدءاً من تأمين قوتها في دمشق ومحيطها. لن نستعيد السيناريو المعروف، والمعاركُ التي خيضت حتى وصل الحال إلى ما وصل إليه كانت معارك تقليدية بسمتها العامة، وكان لسلاح الجو الذي يحتكره الأسد وحلفاؤه الكلمة الفصل، وهو ما كان معروفاً ومتوقعاً طوال الوقت بسبب عدم وجود وسائل دفاع جوية لدى جيوش المعارضة.
تنبغي هنا الإشارة إلى أن جيش الأسد “الجيش العربي السوري” كان أول جيش يسقط في سوريا، بسبب زجه في مواجهة متظاهري الثورة. سقط أولاً بفعل الانشقاقات في صفوفه، ولم تنجُ منها سوى النواة الصلبة الأشبه بالميليشيات أصلاً مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة. وسقط ثانياً، رغم وجود تلك الميليشيات، حين لم يعد قادراً على مواجهة فصائل المعارضة رغم امتلاكه الجو، فاضطر للاستعانة بالميليشيات الشيعية ثم بالحليف الروسي. بالطبع كان هذا الجيش قد سقط أخلاقياً منذ إطلاقه أول رصاصة على المتظاهرين العزّل، وهذا السقوط الأخلاقي استئناف لمسيرة حكم البعث الذي أتى بانقلاب عسكري على سلطة منتخبة.
وحشية جيش الأسد إزاء المناطق الخارجة عن السيطرة معروفة جداً، بينما غير معروفة على نطاق واسع انتهاكاته الموجهة للسكان الواقعين تحت سيطرته، بمن فيهم من يُفترض أنهم موالون وداعمون له. الواقع أن الانتهاكات تترواح بين إذلال الناس على الحواجز المنتشرة بكثرة وبين عمليات قتل لأسباب غير سياسية، مروراً بعمليات سطو ممنهجة تقوم بها عادة الحواجز نفسها إما لتسهيل عبور الأشخاص أو البضائع، وفي الحالة الأخيرة يدفع ثمنها المستهلك مهما كانت ميوله السياسية. مثل هذه الانتهاكات شهدناها لدى عسكر آخرين خارج سلطة الأسد، بل باتت بمثابة نموذج رائج للتسلط والربح المالي.
ما نستطيع قوله أن الجيوش الخارجة عن سيطرة الأسد لم تقدّم نموذجاً مغايراً للعسكر عموماً، فنحن كنا طوال الوقت أمام عسكرة أشد وسياسة وتنظيم مدني أقل، وفي أحسن الأحوال يتبع التنظيم المدني العسكر مباشرة. الحالة الوحيدة التي كان فيها نوع من التكامل والانضباط المركزيين هي حالة وحدات الحماية الكردية والإدارة الذاتية المرتبطة بها، إلا أن اليد الطولى بقيت لوحدات الحماية وقادتها الذين يرسمون السياسات العامة، وكالعادة تكفلت سلطة العسكر باستهداف معارضيها وقمعهم، من دون أن نخوض في الانتهاكات الموجهة لغير الأكراد أو المرافقة للعمليات العسكرية.
في الحصيلة العامة، تتقاسم موسكو وطهران النفوذ على جيش الأسد، بينما أصبح ما تبقى من فصائل “معارضة” تحت النفوذ التركي، وتبدو وحدات الحماية حائرة بين الانضواء كلياً تحت سيطرة الأسد وحلفائه أو الإبقاء على أمل ضعيف يتعلق ببقاء المظلة الأمريكية على بعض أماكن تواجدها. هذه الحصيلة تأتي بعد خوض الكثير من المعارك التقليدية التي خلّفت خسائر باهظة في الأرواح والممتلكات، فوق الخسائر المعنوية المتعلقة بقضايا مثل الثورة السورية والمسألة الكردية، والخسائر تعني أولاً وأخيراً الجيوش الخارجة عن سيطرة الأسد، لأن جيش الأسد رفع منذ البداية شعار “الأسد أو نحرق البلد” وسار وفقه.
نخطئ إذا اعتبرنا الارتهان للخارج، ثم خسارة الرهان على الأخير، مآلاً غير متوقع لمسار هذه الجيوش التي لا تستند إلى قوى ذاتية كافية. المسألة هي في أصلها ونشأتها، فأي ميليشيا تقوم على مبدأ الجيوش التقليدية ستخوض الحروب بالمنطق ذاته حيث الغلبة للجيوش الأفضل تسليحاً، وحيث لا ينفع نبل قضية أو بسالة مقاتلين. لقد كان فشل خيار الحرب التقليدية واضحاً منذ سنوات، وما نشهده في نهاياتها لا يزيد عن كونه إمعاناً في تلقين الدرس الذي فات أوان الاستفادة منه من أجل الحاضر.
عمر قدور-المدن