جسر: مقالات:
حين وقعت الواقعة السورية عام 2011 رجّت مجتمعها رجّاً، وأحالت وحدته الظاهرية هباء منبثاً. فانقسم طائفياً وعرقياً واقتصادياً على مواقف ثلاثة؛ أصحاب الثورة، وأهل النظام، والمتحيرين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. طال الشرخ أسراً كثيرة من داخلها وحطّم صداقات وقضى على زمالات طويلة. خلال ذلك العام وما تلاه تبادل الفرقاء حججاً كثيرة تدعم موقف كل جماعة منهم، وتراشقوا بالصور والفيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تخندقوا وراءها مستنفرين غير متكئين. فيما كانت آلة النظام العسكرية تحيل الرجال إلى شهداء مخلدين وتعتقل نساء عين وتقصف لحم بشر مما يُفترَض ألا يشتهون.
بعد هذا العقد من التحولات يحدث أن يلتقي سوريون من «أطراف النزاع» على الساحة البديلة المتاحة في فيس بوك، في غزوة من هؤلاء على أولئك أو حملة إزعاج أو في صفحة محايدة.
سرّعت هذه الأفعال، وردّات الفعل الدموية المتوقعة عليها، مسيرة تحول الإخوة من خصوم إلى أعداء. تبادلوا «البلوكات» أفراداً وجماعات وقرى وبلدات متجاورة وأحياء لصيقة. وقد عزّزت الحالة الحربية من قطيعة جغرافية جعلت الآخر بعيداً. فيما انشغل أهل كل مجتمع من الأرخبيل السياسي والأهلي السوري الحادث بسياقهم الخاص، المفعم بالتفاصيل، الذي وجدوا أنفسهم فيه. تصلبت الجدران عبر السنوات وتباينت الحساسيات وانقطع الحوار الذي صار يشبه حوار الطرشان. وأصبح كل فريق لا يسمع من الآخر لغواً ولا تأثيماً، من وجهة نظره، مكتفياً بأبناء موقفه الذين يقولون سلاماً سلاما.
وقد أدت الهزائم العسكرية لقوات المعارضة في السنوات الأخيرة، وحملات التهجير التي أعقبتها، إلى تباعد أكبر حين لم يعد الخصوم حتى مرئيين على خط النظر، واستحالت خطوط التماس من أهلية-عسكرية إلى حربية محض يرابط على طرفيها المقاتلون وحدهم تقريباً. حتى أغلقت الكورونا دائرة ذلك كله فخنقت تنقل الأفراد بين مناطق السيطرة المختلفة.
بعد هذا العقد من التحولات يحدث أن يلتقي سوريون من «أطراف النزاع» على الساحة البديلة المتاحة في فيس بوك، في غزوة من هؤلاء على أولئك أو حملة إزعاج أو في صفحة محايدة. ما يلفت النظر هنا أن مؤيدي السلطة، ورغم أنهم منظمون، فالجيش السوري الإلكتروني لم يمت بعد، باتوا فاقدي الرغبة في تقديم أي حجة مما كانوا يسوقونه قبل سنوات عديدة مضت. والأرجح أن يكتفوا بعبارة شتّامة من نوع «صرماية بشار بتسواك».
الحقّ أن صرماية الأسد لم تغب عن السجال منذ نشأته، مثلها مثل صباط السيد حسن نصر الله وبوط العسكري. غير أن هذه «الحجج» لم تكن تنفرد وحدها كوسيلة «إقناع» في السابق، وليس هذا دون دلالة. فمن المعروف أن مؤيدي النظام خائبون في النتيجة. فها قد انتهت الحرب أو كادت، كما أنبأهم، ولم يطَلهم لا سدر مخضود ولا طلح منضود ولا ظل ممدود ولا ماء مسكوب ولا كهرباء كثيرة. بل لقد أدى اضمحلال العملة إلى وقوعهم تحت خط البؤس ما دام كثيرون منهم يعتمدون على الوظيفة الحكومية ومستتبعاتها كمصدر دخل وحيد، فيما أودى انهيار الخدمات بجانب من الأعمال الحرة، فضلاً عن آثاره الحياتية اليومية التي طالت الجميع.
وفي المقابل لم يعد لدى الثائرين أي حماس للمحاججة؛ نتيجة اليأس من جدواها في البداية، ثم بسبب سلسلة طويلة من الخيبات والأخطاء والخطايا والمخازي والفشل تلبّس بها المعارضون والثوار، من مدنيين وعسكريين وسياسيين، جعلت الدفاع عما يجري على الأرض المحررة في الشمال أمراً عسيراً. لم يعد التمسك بإشهار المبادئ المحقة (حرية، كرامة، عدالة…) في وجه العدو كافياً، ما دامت لا توجد إلا كشذرات في الواقع، وما دامت المرارة السائدة بينهم تحيل «سوريا الجديدة» في أذهانهم الآن إلى حلم ليلة ربيع.
بين اللاعبين الآخرين في المشهد تحتفظ أشلاء جثة داعش المتحركة بأعلى درجة من الإيمان. لكنه، أكثر من كل مرة، إيمان عدمي. فالحركة التي كانت صاعدة باتجاه الدولة الإسلامية ثم إعلان «الخلافة» استنفدت طاقتها الاستقطابية المحلية والعالمية، وأصيب عمودها الفقري في مقتل لن تُشفى منه بعد أن تسللت بين شقوق التاريخ والجغرافيا في غفلة من القوى الفاعلة. وفي ما عدا مناوشات التنظيم المستمرة مع قوات النظام في البادية، وقدرته على استهداف المتعاونين البسطاء مع قسد في أرياف دير الزور؛ تنشغل صحيفته المركزية «النبأ» بأخبار العمليات ضد الجيش النيجيري.
أما الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي يهيمن عليها حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي، فلا تبدو مشغولة اليوم بالإيمان بل بالبقاء. خاصة بعدما وصلت مغامرتها إلى سقفها، وتجاوزته بالسيطرة على مناطق تبدو عصية على الهضم والإدارة والسَجن والمخيمات، وبعد أن أنقذها تدخلان متزامنان، أميركي وروسي، من الانهيار أمام القوات التركية مؤخراً.
في نطاق أضيق انحسرت الجهادية السنّية في سوريا إلى مجموعات متناثرة يلاحقها التحالف الدولي بالطائرات المسيّرة وهيئة تحرير الشام، في طبعتها الجديدة، بالاعتقالات ومصادرة السلاح الثقيل وضبط الإيقاع العسكري.
في نطاق أضيق انحسرت الجهادية السنّية في سوريا إلى مجموعات متناثرة يلاحقها التحالف الدولي بالطائرات المسيّرة وهيئة تحرير الشام، في طبعتها الجديدة، بالاعتقالات ومصادرة السلاح الثقيل وضبط الإيقاع العسكري. فيما تواردت أنباء عن سحب «حزب الله» اللبناني عدداً كبيراً من عناصره، تاركاً للإيرانيين وحلفائهم الطائفيين الآخرين المهمة الصعبة في استثمار النتائج وتكريسها على الأرض في ظل القصف المتكرر للطيران الإسرائيلي.
يشير كل ما سبق من «مقدمات» طويلة للغاية، ودامية جداً، إلى علامات تخامد الحرب السورية. وهو ما قاله حتى وجهٌ متصلب وعدواني بارز مثل سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي. غير أن ما سيلي ذلك بطيء جداً ومعقد ومتعرج مع تناحر القوى الدولية الفاعلة في سوريا وتفاوت درجات حضورها واهتمامها.
خفض السوريون سقف طموحاتهم بالتوازي مع تراجع إيماناتهم. ولم يعد في أفقهم المنظور توقّع رَوح وريحان وجنة نعيم الآن. لكن الانتقال السياسي يظل أقل ما يمكن أن يفتح باب السلام في البلاد بعد أن أنهكها عِقد من نُزُل الحميم وتصلية الجحيم.