عبد الناصر العايد
تبّدل الهيكل السكاني في سوريا على نحو سريع، خلال السنوات العشر الماضية، ولم تأخذ الظاهرة حقها من الدراسة والبحث على الرغم من الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية الكبيرة التي يمكن أن تترتب على استمرارها وتفاقمها. والقضية ببساطة هي أن المجتمع السوري كان، مثل أي مجتمع نامٍ، يمتلك هرماً سكانياً بقاعدة عريضة من الفئات العمرية اليافعة جداً، وقمة صغيرة من كبار السن، وفئة شابة في الوسط تنهض بكافة الأعباء الإنتاجية والتنموية والوظائف الاجتماعية المختلفة، وهو الواقع الذي تغير بشكل دراماتيكي خلال العقد الماضي.
يمكن لكل سوري اليوم أن يلاحظ، بالاستقصاء المباشر، أن كل عائلة سورية تقريباً، فقدت بالاعتقال أو القتل أو الهجرة، عدداً من أفراد الأسرة الشبان. وقد أجري ما يشبه الاستطلاع الشخصي لعينة مؤلفة من عشرات الأسر والعائلات التي أعرفها، وكانت النتيجة الأولية، وهي غير علمية بطبيعة الحال وغير قابلة للتعميم، تشير إلى أن المجتمع السوري، وعلى الأخص في مناطق سيطرة النظام وقوات سوريا الديموقراطية، بات مجتمع مسنّين وأطفال يفتقد بالدرجة الأولى إلى عنصر الشباب، والذكور على نحو واضح.
قبل عقد من الزمان، كان المجتمع السوري يوصف بأنه مجتمع شاب. ووفق تقديرات غير مدعومة بإحصائيات موثوقة، فإن نحو 30% من السكان هم دون سن الـ18 سنة، فيما لا تزيد نسبة السكان فوق 65 سنة عن 3%. أما الصورة العامة اليوم داخل البلاد، فهي أن ما لا يقل عن 25% من السكان هم فوق سن 60 عاماً (النسبة العالمية 13%).
ثمة اختلال جندري أيضاً في الهيكل السكاني. فبينما كان يقابل كل 100 امرأة، 102 من الرجال في سوريا، فإن النسبة تحركت لصالح النساء على نحو غير مؤكد حتى الآن بسبب غياب البيانات السكانية الموثوقة. لكن فيما لو اعتمدنا إحداها، وهي الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزي التابع للنظام، عن تحرك نسبة النساء العاملات في سوريا من 13% في العام 2010، إلى 26% في العام 2021، فلا يمكننا إلا أن نتصور إن الاختلال بين نسب الرجال والنساء، خصوصاً الشبان والشابات منهم، ربما زاد عن 10% وهو الأمر الذي له إنعكاسات اجتماعية خطيرة.
وبطبيعة الحال أيضاً، هناك اختلال ما يتعلق بالمكونات العرقية والدينية، تم الحديث عنه، لكن لا توجد بيانات أو احصائيات علمية يمكن الاستناد عليها، ويبقى الأمر في إطار الملاحظات العامة. على سبيل المثال، فإن النسبة العظمى من العنصر الشاب هو من المكون العربي السنّي، يليه الأكراد والمسيحيون. وقد صرّح قسّ مقيم في حلب بأن عدد المسيحيين هناك قد انخفض من 250 ألف، إلى نحو 20 ألف فقط في العقد الماضي. يحدث هذا بالتوازي مع امتناع الشبان من الطائفة العلوية عن السفر بسبب تعذر ذلك أو ارتباطهم بالعمليات العسكرية أو الأوضاع الحسنة اقتصادياً التي يتمتعون بها نتيجة قربهم من السلطة. ومن ناحية أخرى، تتكدس أعداد كبيرة من الشبان في منطقة شمال غربي سوريا الخارجة عن سيطرة النظام والخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”، حيث ما زالت الكتلة السكانية تحافظ على نسبة مرتفعة من الشبان مقارنة بالمناطق الأخرى.
وقد كشفت دراسة أجراها “مركز حرمون” حول الهجرة من مناطق سيطرة النظام، أن الشبان بين سن 18 و24 عاماً، هم الأكثر رغبة في الهجرة بنسبة تصل إلى 87%، بينما يرغب 86% من طلاب الدراسات العليا بالهجرة. ويُعد الهروب من الخدمة العسكرية الإجبارية التي تبدأ في سن الـ18 الدافع الأول للفئة الأولى، بينما دافع الفئة الثانية هو تحسين الأوضاع المعيشية السيئة جداً، أي أن ما تفقده البلاد هو الطاقة الشابة الدافعة والنخب المتعلمة والأكثر مهارة.
لا يقدم نظام الأسد أي معلومات إحصائية واقعية تكشف حقيقة ما يجري داخل مناطق سيطرته أو في سوريا عموماً. لكن بعض المعلومات التي تتفلت هنا وهناك، تشير إلى معطيات خطيرة جداً، ومن بينها ما نشرته إحدى الصحف التابعة للنظام عن عدد جوازات السفر التي أُصدرت العام 2021، وزادت عن 880 ألف جواز، والكل يعلم أن النظام يستخدم هذه الجوازات لرفد خزينته بالعملة الصعبة حيث يعتبر جواز السفر السوري من أغلى جوازات السفر في العالم، ولا يمكن لمواطن يريد البقاء داخل سوريا أن يدفع مئات الدولارات، وهي ما يمثل دَخله لسنوات، لمجرد اقتناء وثيقة سفر، بل للهجرة.
لم تولِ مراكز الأبحاث المعنية ولا الجهات الأممية، اهتماماً لهذه الظاهرة، ولم تُعنَ الدراسات الاستشرافية بعد بالبحث في النتائج المحتملة لها على الصعد الاقتصادية أو الاجتماعية والسياسية والإنسانية بالعموم، مع أن هذا المتغير غير المنظور اليوم قد يكون عاملاً حاسماً في تقرير احتمالات واتجاهات الصراع والتحولات الاجتماعية الممكنة في هذا البلد.
إن ظاهرة شيخوخة الدول دُرست وتُدرس، على نحو وافٍ، في الدول الأكثر تقدماً والتي بدأت تعاني منها، مثل دول أوروبا واليابان وكوريا. لكن سوريا تمثل حالة فريدة ولا تنطبق عليها النتائج المعيارية أو التوصيات والمعالجات التي خرجت بها هذه الدراسات. فالمشكلة في سوريا لم تنجم، كما في الدول الأخرى، عن نقص في المواليد ولا عن طول العمر، بل لأسباب سياسية وعسكرية واقتصادية. ومع أن قضية الاختلال الديموغرافي هذه لن تُحل بمجرد حل القضية السياسية، فأن معالجتها لن تبدأ إلا بالتوصل إلى تسوية سياسية ما.
المصدر: المدن