جسر: رأي:
تنبئنا الأخبار القادمة من مناطق سيطرة الأسد بأن المأساة السورية تدخل طوراً جديداً، أدوية ضرورية جداً مثل أدوية الضغط والسكري لم تعد متوافرة في الصيدليات، وربما سيعزّ شراؤها على المحتاجين قريباً. الليرة السورية تتهاوى مجدداً أمام الدولار، والأخير قد يصبح وجوده شحيحاً جداً بالقياس إلى المستوردات الأساسية، بما فيها تلك المستثناة من العقوبات الأمريكية بموجب قانون قيصر. القانون لم يصبح نافذاً بحيث نرى تأثيراته السريعة اليوم، ولا يندرج هبوط قرابة مليون ونصف مليون سوري جديد تحت خط الفقر، في الشهر الأخير فقط، ضمنها.
بدءاً من هذا الشهر قد تصبح العقوبات الأمريكية بموجب قانون قيصر مشجباً تُعلّق عليه الكارثة السورية بكافة مظاهرها، والدعاية الأسدية نفسها ستواجه العقوبات بمنحيين متناقضين، الأول يستهتر بها رسمياً ويقلل من مفاعيلها، بينما تتولى القنوات الجانبية أو المخفية تحميلها المسؤولية عن التدهور المنتظر. هذه الدعاية بوجهيها لن تكون كاذبة، فالعصابة الحاكمة لن تتأثر حقاً بالعقوبات وستستهتر بها كما كان سلوكها إزاء كل القرارات الدولية والعقوبات الغربية، بينما ستستغلها للتنصل من مسؤولياتها إزاء الواقعين تحت سيطرتها.
لقد رأينا في الأيام الأخيرة مثلاً كيف تزيد العصابة الوضع سوءاً، من خلال القرارات التي أصدرها مصرفها المركزي في ما يخص ملاحقة مكاتب تحويل العملات، والتي تنشط أساساً على الأموال التي يرسلها السوريون من الخارج إلى أهاليهم. السيطرة على هذا النشاط، وفرض سعرٍ متدنٍ للدولار مع استرداده لصالح الخزينة، لن يؤديا فحسب إلى خسارة مستلمي الأموال معظم قيمتها الحقيقية، بل للسبب نفسه سيتقلص بشكل كبير حجم الأموال المرسلة من الخارج، وفي المحصلة سيتناقص ما هو موجود من الدولار في السوق السورية، ما يعني ارتفاعاً جديداً في سعره قياساً إلى الليرة.
التسبب في شحّ المعروض من الدولار، في ما يُسمى السوق السوداء، ستتأذى منه “فضلاً عن متلقي المساعدات” الطبقة الأضعف من التجار والصناعيين، وهي التي تقوم بالنشاط الاقتصادي الفعلي، لا ذاك الاحتكاري الذي تهيمن عليه حيتان السلطة. هناك صناعات مهددة بالانهيار بسبب جشع الطغمة الحاكمة في أسوأ الظروف، فأصحاب العديد من الصناعات “ومنها الدوائية” سيصعب عليهم الحصول على العملات الصعبة لتمويل مستورداتهم من المواد الأولية، وسيكون البديل هو المواد المصنعة الجاهزة بأثمان مضاعفة، والتي من المرجح قدومها تهريباً لصالح مافيات السلطة وللشرائح الضيقة جداً القادرة على الدفع، مع التنويه بالبطالة المتزايدة جراء تدهور ما تبقى من صناعات خفيفة.
تدهور سعر صرف الليرة “إلى حوالى 2000 مقابل الدولار” يعكس فقط حصيلة الأسابيع الماضية، وخلالها إنعكس سلباً إستقرار الوضع المالي والمصرفي اللبناني على حالة من الانهيار وازدياد القناعة بأنه باقٍ هكذا ضمن المدى القريب. للخلاف بين بشار الأسد ورامي مخلوف نصيب من التسبب بتدهور الليرة، لا لأن الثاني يتمتع بذاك الثقل الاقتصادي المؤثر، بل لأن استهدافه من المحتمل أن يكون قد أرهب العديد من الأثرياء على قاعدة أن من يستهدف شريكه وأقرب أقربائه لن يكون أرحم بهم. وسيكون من شأن أي استعراض إعلامي، بذريعة مكافحة الفساد أو ارتفاع الأسعار، أن يزيد من حجم التدهور لأنه سيستهدف الفئات الأضعف، وستكون حصيلته ضئيلة ولن تذهب لصالح من سيزدادون فقراً.
واحد من الإجراءات التقليدية المنتظرة هو رفع أجور العاملين الذين باتت كتلتهم العظمى في القطاع العام، هذا أشبه بسكب البنزين على النار، لأنه سيؤدي إلى مزيد من التضخم. كما نعلم، كانت زيادة الرواتب خلال عقودٍ مناسَبةً لإفقار الموظفين لا لتحسين معيشتهم، وفي العديد من الحالات كانت تعويضاً بسيطاً عن تضخم حاصل سلفاً، ووفق المعطيات الحالية ستعمل الآلية ذاتها بتسارع أشد. أما الديون المستحقة لموسكو وطهران فهي بالدولار، ولا يُستبعد الإلحاح على المطالبة بها في أسوأ ظرف تمر به سلطة الأسد، فأحوالهما الاقتصادية ليست بخير، ومعرفتهما بالثروات الشخصية لآل الأسد تشجع على المطالبة، إن لم يكن لتحصيل المبالغ فللحصول على مواقع استراتيجية أو ذات مردود اقتصادي مجزٍ ومضمون.
ما يخشاه السوريون، بمن فيهم بعض الموالين على الأقل، هو استعداد سلطة الأسد المستمر للتفريط بمعيشتهم وبمستقبلهم من أجل بقائها. هذا الفهم هو ما يعمق المخاوف من قانون قيصر، ويستأنس بتجارب مماثلة سابقة دفعت فيها الشعوب أثمان العقوبات التي لم تبال بها الأنظمة. الخوف الحقيقي هو من سلطة الأسد لا من العقوبات، ومن المؤسف أن الأخيرة لن تجعل السلطة أكثر رأفة بالواقعين تحت سيطرتها، وتوحشها المالي الاستباقي قد يعقبه توحش مخابراتي لمحاصرة التذمر المتوقع صدوره في الأيام المقبلة، رغم أنه لن يزيد عن كونه تذمر الضحية العاجزة.
بالطبع تعرف واشنطن كل ما سبق، وعليه لا يبدو قانون قيصر موجهاً إلى سلطة الأسد بقدر ما هو موجه إلى شركائها الذين يُطلب منهم التحلي بقليل من العقل، وهذا ليس امتداحاً للسياسة الأمريكية في سوريا التي تسببت بدورها بقسط من الدمار. المطلوب بموجب القانون “تنازلات” من سلطة الأسد، ومن المعيب أن تُطلق عليها هذه الصفة، فالتوقف عن قصف المدنيين مثلاً لا ينبغي أن يكون في مقام التنازل الذي تقدّمه أية سلطة. على العموم، أقصى ما تصل إليه “التنازلات” المطلوبة لا يطرح إسقاط الأسد، وإنما ينص على الدخول في تسوية سياسية ضمن الحد الأدنى المقبول دولياً. مرة أخرى، خوف السوريين هو من طبيعة الأسدية التي لن تقبل التسوية، ولو قبلت أصلاً مبدأ المشاركة لما وصلوا إلى هذا الحال وما كان هناك قانون قيصر أو غيره من العقوبات.
الجهة الوحيدة المعوَّل عليها لتلافي الأسوأ هي موسكو، ومصدر التعويل ما ستقتضيه مصالحها الاقتصادية بعد تحقيق نظيرتها الاستراتيجية. يجوز لنا هنا تجاهل تصريحات أخيرة لمسؤولين أمريكيين صغار حول الوجود الروسي في سوريا، فواشنطن خلال عهدي أوباما وترامب لم تبذل أدنى جهد لعرقلة أو كبح التوسع الروسي. بعبارة أخرى، المطلوب من موسكو، بعد أن تفرغ من ابتزاز الأسد، التصرف كقوة تريد جني مكاسب الاستقرار وإعادة الإعمار. هذا لن يحدث في القريب، أي قبل أن تحصل من بشار على كافة المكاسب أو الامتيازات التي تدعم بقاءها استراتيجياً واقتصادياً. حتى تحين تلك اللحظة، في وسعنا القول أن سوريا ستبقى واقعة بين قيصرين، القيصر بوتين وقيصر”نا” الذي صادف أن كان اسماً مستعاراً لمأساة المعتقلين المقتولين تحت التعذيب، وضمن مسار يتوخى العدالة لا المزيد من المآسي.
_____________________________________________________________________________________
*نشر في المدن السبت 5 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا