جسر: صحافة:
ذات يوم من عام 1985 أنهى الخبير الاقتصادي حسين الشرع إحدى مقالاته القليلة. اختار لها عنواناً طويلاً لكنه واضح، كعادته: «نحو تجديد الدعوة للقومية العربية بعد الإفلاس القطري والطائفي».
في منزله، في مدينة الرياض، كانت قد انتظمت عادات كتابته رغم وجود أسرته الكبيرة نسبياً، فهو رجل حازم. وإن كانت صرامته لا تطول بعدُ أصغر أولاده، أحمد ابن السنة الواحدة، الذي سيقدّر له أن يمزق مضمون المقالة حين سيصبح، عام 2011، مؤسس «جبهة النصرة» ويُعرف بلقب أبو محمد الجولاني.
غير أن الأستاذ حسين، أو الدكتور كما يحب أن يُدعى، لن يعرف هذا الآن، بل سيعيش أيام ذروة إنجازه تلك بنشاط ملحوظ. ففي 1983 و1984 نشر ثلاثة كتب: «النفط والتنمية الشاملة في الوطن العربي»، و«التطور الاقتصادي في المملكة العربية السعودية ومستقبل التنمية»، و«الاقتصاد السعودي في مرحلة بناء التجهيزات الأساسية». أما كتابه الرابع، والأخير، فسيصدر في دمشق، عام 1987، بعنوان «منظمة الأوبك 1960-1985: التحولات الكبرى والتحدي المستمر».
لن يشعر حسين علي الشرع بالحرج من كتبه السعودية فيما يهم بإرسال مقالته إلى مجلة «دراسات عربية» الناطقة بلسان التيار القومي اليساري. فهي كتب جادة وغير متملقة، تهدف إلى استثمار البترول في بناء نهضة شاملة للأمة العربية، فضلاً عن أنه نفسه لم يكن ماركسياً في أي يوم، منذ أن اعتنق الأفكار القومية التي فتح عينيه على صعودها الزاهي مع جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن العشرين الذي ولد قبيل منتصفه عام 1946. أما حين انتسب إلى حزب البعث فقد جذبته سنوات الدراسة، التي بدأها عام 1964 في جامعة بغداد، إلى الجناح القومي في هذا التنظيم. دون أن يتورط، عند عودته إلى عاصمة بلده دمشق بعد حصوله على الماجستير في الاقتصاد، في عضوية أي من خلايا البعث العراقي داخل الجناح السوري، مما كان سيقوده إلى السجن لا محالة، وإن ظل قلبه عراقياً أكثر بكثير من المحسوبين على يمين البعث، حتى أدت الشبهات الأمنية إلى فصله من عمله الحكومي فغادر إلى السعودية.
قبل ذلك كان الشرع قد حصل على وظيفة متوسطة في وزارة النفط ثم عمل مستشاراً في رئاسة مجلس الوزراء، وانتخب عضواً في مجلس محافظته القنيطرة، التي كانت سقطت بيد إسرائيل عام 1967، أثناء دراسته، وانقطع طريق عودته نهائياً إلى قريته الجولانية جيبين التي دُمرت وأقيمت مكانها مستوطنة.
بخلاف الشائع، لا ترجع كل العائلات التي تحمل كنية الشرع في درعا والقنيطرة إلى أصل واحد. أما سلالة حسين فيمكن تتبعها عبر جده طالب، الذي كان ممثل منطقة الزوية الغربية في ثورة حوران التي قادها الأمير محمود الفاعور، شيخ قبيلة الفضل، ضد الفرنسيين في عشرينات القرن الماضي. بينما ينتمي طالب إلى عشيرة السلامات التي ترجع إلى قبيلة عنزة. وقد أدت مناهضته للانتداب إلى فراره إلى الأردن وإقامته هناك مدة طويلة يفاخر بها حفيده حسين، الذي ربما كانت ستراوده مشاعر مماثلة تجاه ابنه الذي سافر لقتال الأميركيين في العراق عام 2004، محولاً التنظير إلى رصاص والمشاعر إلى مفخخات، لو لم يُرخ الشاب لحيته ويصبح جهادياً ويعود قائداً لتنظيم متطرف! صحيح أن الأب معارض لنظام الأسدين، وكان يتردد إلى «ندوة الثلاثاء الاقتصادي» ثم «منتدى الحوار الوطني» في منزل عضو «مجلس الشعب» رياض سيف، وصحيح أنه أيد الثورة منذ البداية، وبخلاف بعض مجايليه ونظرائه من أهل «الرأي» فإنه لم يجد بداً من تسلحها؛ غير أنه يرى أن ذلك يجب أن يحصل في إطار منضبط من تولي الضباط المنشقين قيادة قوات منظمة ترتبط بشكل وثيق مع معارضة سياسية فاعلة، بهدف بناء سورية جديدة ديمقراطية، ووحدوية بشكل غامض من الأشكال، لا طائفية تروم دولة إسلامية.
غير أن هذا كله كان ما يزال في علم الغيب حين صدر العدد الجديد من «دراسات عربية» البيروتية في تشرين الأول 1985، واحتفلت المجلة بالمقال الطويل للخبير الوحدوي فنشرته في صدر صفحاتها، وهو يقول:
هبت على المنطقة رياح حملت بذور الفتنة غير مرة بقصد تصديع البنية الوطنية داخل الأقطار العربية التي اعتبرت ذات يوم محركاً ودافعاً للدعوة القومية، ولعل أخطرها وأبعدها أثراً هي إطلالة الطائفية والمذهبية… الطائفية بكل ما تحمله من تناقضات ورواسب ظاهرها ديني متزمت يمتد إلى قضايا وأحاسيس ومناخات، وباطنها سياسي أتاحه لها المتفيقهون من الراسخين في التحريض… ففرضت نفسها بديلاً عملياً للألفة والمحبة والتسامح التي جاءت بها الأديان السماوية والمذاهب التي وزعت هذه الأديان إلى مسميات مذهبية بحيث أتاحت مجالاً رحباً للمتعصبين والمغرقين في مذهبيتهم أن يكفّروا كل ما عداهم… وتحيل العرب إلى عربين والتقوى إلى أسلوب للقتل والسفك والداعية إلى خطيب يحرض على القتل وينتقم… يجب أن تفرض الديمقراطية نفسها وتُطرح للجميع حتى يأخذ الإنسان بُعده الكامل… ما العمل؟ الجواب أن يفهم الطائفيون والقُطريون العرب، دولاً وحكومات ومؤسسات، أن الحال على هذا المنوال مقدمة حتمية لسيطرة العهد الصهيوني… والعمل أن يعيد الذين فقدوا الثقة في مبادئهم حيوية انتماءاتهم، وأن يعلموا أن مستقبل هذه الأمة يحتاج إلى ريادة من نوع جديد تؤمن إيماناً عميقاً بالقومية العربية وتنادي بالوحدة العربية وتتعامل مع بعضها ومع الآخرين بالوعي الديمقراطي، بعيدين عن التشنج والاستلاب ومصادرة آراء الآخرين. لأن الوطن يتسع للكل، وهو وطن الكل، بلا تمييز عرقي أو طائفي أو مذهبي أو سياسي. فالكل في مرآة الوطن واحد.