كتبها-خليفة خضر: أخذت المروحيات تحوم في سماء المدينة وترمي ببراميلها بشكل عشوائي على الاحياء التي تكرهها الدولة.
هنا كان بناء، وكان هناك منزل جميل تعب صاحبه وكلفه شقى عمره وغربته كي يبني المنزل.. عائلة بأكملها أخرجوها من تحت الأنقاض، كل من لديه من المال الكافي للسفر خارج المدينة هو الآن إما في الريف أو في دول الجوار أو أوروبا، وبقي الحي للفقراء منهم وهم من ماتوا ببراميل الدولة، وأخرين وجدوا الحل بالسفر إلى مناطق الدولة التي تخلت عنهم، وكما قال أحدهم: “الي تخاف منه روح لعنده .. ترتاح”.
قيل لنا أن المروحيات تملىء حمولتها من البراميل من معامل الدفاع بريف حلب منطقة السفيرة، وعندما تأتي صباحاً إلى المدينة لتفرغ حمولتها علينا ومن ثم تعود من حيث أتت، يجب أن يكون طريق عودتها من فوق حينا وشارعنا باتجاه معامل الدفاع. وبحكم معرفتنا بموظفي الدولة وكسلهم وقلة حيلتهم وتثاقلهم في عملهم، عرفنا أن حينا والذي بحكم بموقعه كأخر أحياء المدينة في طريق عودة المروحيات إلى معامل الدفاع، علمنا أن لا فكاك من المزيد من البراميل.
يأتي الطيار صباحاً وعلى عيونه النعس _ هكذا نظن_ يرمي بأحد البراميل في أحد أحياء المدينة، ومن ثم يعود يرمي كل ما تبقى لديه من براميل على شارعنا وحينا وينصرف، حارات لم يبق لها وجود على سطح الأرض.
لم تخف حملة البراميل على المدينة والحي إلا بعد أن هجرها أغلب سكانها، ولم يبق إلا الفقير.
ولقلة العمل للفقراء منهم، أخذوا ببيع أسلاك الكهرباء المستخرجة من داخل جدران المنازل المدمرة، أو فك البلاليع وبيعها كمعدن والبحث بين المنازل المهجورة والمقصوفة عما يباع ليتم بيعه وشراء القليل من الطعام وبعض الحصص الإغاثية من قبل عدة جميعات ترمي بحمولتها على رصيف الشارع وتلتقط عدة صور لها أثناء رميها للحمولة وتذهب، وفي الشتاء تم تكسير غرف النوم التي كانت معيار قيمة فتاة ما أثناء زواجها وتم التدفئة عليها.
خلا الشارع من أي مظهر من مظاهر الحياة وبالكاد تشاهد في اليوم، سيارة لفصائل الجيش الحر تستخدم شارعنا كطريق إلى نقاط الاشتباك أو رجل يحمل ما استطاع حمله من منازل الحي وعدة نساء تمشي بحثاً عما يقيهم برد الشتاء.
أعلنت الدولة معركة ستقضي فيها عمن تبقى ممن لم تقتله البراميل المتفجرة ولا صواريخ السكود ولا اعتقالات جبهة النصرة والشرطة العسكرية والمحكمة الشرعية في الأحياء الشرقية..
بدء الطيران الروسي بقصف الحي والشارع بصواريخ ارتجاجية تحدث بالأرض حمماً بركانية، وبات الأهالي يترحمون على أيام القذائف والمدفعية والبراميل. أخذ الأهالي يخمنون من أين يأتي القصف ويحتمون بمنازل الأخرين علها تقيهم من الموت الذي يهربون منه، حتى جدران منازلهم لم تستطع حمايتهم من الصواريخ الروسية التي تسبب للجدران تصدعاً مما يسبب انهيارها.
وإن كان الصاروخ الارتجاجي الروسي قد أصاب حي بعيد عن حينا ولكن الأحياء كلها ترتجف خوفاً من صاروخ أخر يصيبها. وأخذت حجارة المدينة البائسة تتعاطف وترتجف مع غيرها، مع ارتجاف جدران المنازل، أخذت قلوب الناس ترتجف أيضاً، في حال نظرت إلى أحد ممن تبقى ترى فيه مخلوقاً أخراً غير ذلك المخلوق الذي يطلق عليه إنسان.. وجوه سوداء مغبرة وأيادي سوادء متسخة وشوارب مبعثرة على وجوه المسنيين، حتى نساء الحي أخذ الشعر ينمو على وجوههن.
في صمت الليل المخيف يردد أحد رجال الحي ممن تبقوا الأية القرانية: لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين.. يكرر بشر الصابرين … بشر الصابرين … بشر الصابرين!
أخاطب الله: هل ما يحدث شيء من الخوف والجوع، أم هو الخوف كله والجوع كله؟!
اقتربت الدولة والجيش ومليشيات تتبع لتجار أعمال تسير أمام دبابات الجيش الذي يمهد له الطيران الروسي الطريق أمامه والمقاتلين الذين يتبعون لإيران براً وقوات الجيش والأمن وممن انتسب من الحي معهم، وصلوا المساكن الخلفية للحي ومن ثم تقدموا تجاه المدرسة وأتخذوا من صفوفنا الابتدائية نقطة انطلاق لاستكمال السيطرة على الحي.
دون سابق إنذار، تركت جبهة النصرة وعدة فصائل من الجيش الحر الحي، بقي عدد من شبان الحي يحمون الشارع وطريق نجاتهم إلى قلب المدينة، أفرغوا كل رصاصهم بوجه جيرانهم الذين أتوا تحت الطيران الروسي والإدارة الإيرانية للمعركة، ممن سيحررون الحي؟ هل بقي من يحررونه، عدد من شبان الحي الذين تظاهروا في البداية في الشارع، أفرغوا رصاصهم في الشارع وبعد طلبهم من عدد من العوائل في حال يريدون الخروج من الحي إلى مكان أخر، ردت إحدى المسنات من الحي، ممن وإلى من نهرب؟ ” أهرب إلى الخوف من الخوف نفسه”.
ظل الشارع يوماً كاملاً لا يوجد فيه أحد إلا المسنيين، أولئك الذين شهدوا تشييد المنازل وتحويل كرم الزيتون الذي كان قبل بناء المنازل لعوائل قدمت من القرى وبنت منازلها وغرف المنازل على طرفي الشارع، و اليوم يشهدوا دمار ذات المنازل، لا أبناء الحي الذين قدموا مع الدولة يستطعون الدخول خوفاً ولا الشبان المتظاهرون السابقون والمسلحون حالياً يستطيعون الدخول إلى الحي كذلك!
بقي الشارع حر وملك نفسه حتى اليوم الثاني الذي ذهب فيه أحد رجال الحي المسنيين إلى وحدات الجيش المتمركزة في مدرستنا وطلب منهم الدخول معرفاً عن نفسه أنه مساعد أول متقاعد، سار عدد من أبناء الحي المنتسبين إلى لواء الباقر الذي يتبع لإيران وراءه حتى وصلوا دوار الحي، وسلكوا الشارع من أوله إلى أخره وتأكدوا من عدم وجود أي من شبان الحي المسلحين .. سألوا المساعد المتقاعد، إثر مشاهدتهم للحي بعد زمن من خروجهم منه، مدة طالت عدة سنوات: أين الحي؟ أين الشارع والمحلات؟ .. كيف عشتم؟
لم يجبهم المساعد المتقاعد بكلمة، قام أحدهم باعتقال المساعد الذي طلب منهم دخول الحي، تحت ذمة التحقيق والتهمة التي وجهت له، هو عدم استطاعته الجواب على سؤالهم الذي كرره السجان على نفسه وعلى المساعد المتقاعد والتهمة الأخرى :” لما بقيت مع الإرهابيين؟! ” الإرهابيين هم زملاءهم في الطفولة وفي المدرسة.
بعد يوم من دخول الدولة إلى الحي، نشر أحد مواقع الاخبارية الإعلامية التي تتبع للدولة خبراً مفاده: تم تطهير حي الجزماتي من الإرهابيين، والجيش والقوات الرديفة تستكمل تمشيط الشارع العام للحي الذي يعتبر منطقة استراتيجية.
قرأت الخبر وركزت على ” الذي يعتبر منطقة استراتيجية” وشردت أمام شاشة جهاز الحاسوب، وأنا أردد: استراتيجية؟؟؟؟ … استراتيجية؟؟؟؟!!!!!
ومر شريط الحي والشارع أمامي كفيديو من أيام الحفريات إلى كره المعلمات لنا ولرائحتنا وإلى إهمالنا من جانب الدولة إلى القصف وإلى المنظمات الإغاثية التي تتبع للدول والتي كانت ترمي بحصصها على رصيف الشارع وتعود من المكان الذي أتت منه.. أختم الاستذكار: لو نعلم أنفسنا أننا استراتيجيون لما خرجنا ضد الدولة ..طالما بات حينا استراتيجي فثورة الحي انتصرت.
بعد أسبوع من سيطرة الدولة على الحي، عاد أحد الشبان إليه بعد نفاذ صبره من تحمل جوع الحصار، وبعد أن تم إعطاءه الأمان من قبل أحد أبناء الحي الذي يتبع لإحدى الألوية المدعومة من إيران، وبعد دخوله للحي متسللأ بين الأزقة الضيقة وعلى ركام المنازل المدمرة، قام الشبيحة بقتله ووضع جثته في منتصف الشارع والطلب ممن تبقى من الأهالي بالمشي فوق جثته للتأكد من وفاء الأهالي للدولة ولقائد الدولة.