عمر قدور
هناك منطق عربي، خليجي في المقام الأول والأكثر تأثيراً، مفاده: لقد فشلنا في مواجهة إيران عسكرياً في سوريا؛ فشلنا في إسقاط رجلها بشار الأسد. فلنحاولْ سلوك سبيل آخر، لنشترِ الأسد، ونغريه بالابتعاد عن طهران. لقد فشلت سياسة المقاطعة، بل أدت إلى ارتمائه في الحضن الإيراني أكثر فأكثر، لذا تجب العودة عنها لاستعادته. وهو مختلف عما يسوق الحماس الأردني للتطبيع مع بشار، من هواجس أمنية وأخرى تتعلق بإيواء اللاجئين.
لا يصعب استئنافاً توقّع حضور بشار نفسه مؤتمر القمة العربية المقبل، في الجزائر آذار2022، لولا أن زياراته النادرة جداً إلى الخارج تقتصر على روسيا وإيران، وتُحاط بسرية تامة لدواعي أمنه الشخصي. وغياب بشار الاضطراري سيُترجم بكلمة مُعدَّة سلفاً يلقيها من يرأس وفده، ويؤدي دوره من النفاق بالتأكيد على البعد العربي لسوريا. وسيكون غيابه إنقاذاً للنفاق المتفق عليه، إذ لو حضر لا بد أن يمارس هوايته في الخروج عن النص المكتوب، ليفصح عما في داخله من قبيل أنه لم يتغير وأن نظراءه العرب هم الذين اكتشفوا خطأ سياساتهم في السنوات الماضية وتراجعوا عنه.
في خريف 2009، أنهت الرياض سنوات الجفاء ثم القطيعة اللتين أعقبتا اغتيال الحريري وحرب تموز، ليعود الدفء إلى العلاقات، وعلى رأسها الاقتصادية، وكان ذلك واضحاً جداً من خلال الوفد الاقتصادي الذي رافق الملك عبدالله إلى دمشق في السابع من أكتوبر لذلك العام. الخلاف تفاقم أيامها بعد خطاب النصر الذي ألقاه بشار باسم المحور الإيراني بعد حرب تموز، وفيه وصفَ “في إشارة بدت موجهة إلى الرياض خاصة” القادةَ العرب بأشباه الرجال، لكن قبلها كان قد حنث بوعده الرياض وباريس بحماية الرئيس الحريري. مع ذلك كان تنازل الرياض مفهوماً على خلفية حماية المصالح السعودية في لبنان التي لا يناسبها وجود “قاتل متسلسل” يغتال خصوم المحور الإيراني.
حالياً، بينما تضغط دول خليجية على لبنان بسبب سيطرة حزب الله، هي ليست بحاجة إلى بشار الأسد هناك كما كان الوضع من قبل، فنفوذه قد لا يتعدى القدرة على التوسط لدى الحزب من أجل استقالة وزير لبناني. بعبارة أخرى، لا فائدة منتظرة من التطبيع مع بشار، والتطبيع معه لا يدفع أذى يهدد المصالح الخليجية أو العربية، فهو قد أدى دوره كاملاً في لبنان والعراق وغزة لصالح طهران.
الفكرة الخاطئة الأخرى التي تدفع ضمناً بفكرة التطبيع هي القدرة على شراء بشار بالمساعدات والاستثمارات الخليجية، وجذرها الصائب “الذي تتوقف عنده” هو تلهفه أو جشعه إلى تلقف تلك المساعدات، وحتى تقديمه الوعود الكاذبة من أجل الحصول عليها. يُذكر أن المساعدات والاستثمارات الخليجية حتى عام2011 لم تغب عن حكم الأسد، وكانت بدايتها مع حرب تشرين1973، وصولاً إلى منتصف الثمانينات حيث كانت الإمارات آخر دولة تقطع المساعدات، ثم أُعيدت المساعدات والاستثمارات كجزء من أثمان الانضمام الرمزي إلى التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية.
خلال ثلاثة عقود ونصف “قبل الثورة” تنعّم الأب والابن بالسخاء الخليجي، وهي مدة تغطي أكثر من ثلاثة أرباع حكمهما حتى ذلك التاريخ، من دون ظهور ثمار لتلك المساعدات. على العكس من ذلك، ما يروجه الإعلام المقرَّب من دوائر خليجية ساعية للتطبيع مع بشار يكشف عن جهل أو تجاهل لذلك التاريخ الخاسر، وعن عدم فهم سلطة الأسد في طوريها وعلاقتها في كل طور مع حكم الملالي.
في صيف 2000 كان حسن نصرالله يعزّي بوفاة حافظ الأسد، في القرداحة، مصطحباً مجموعة من مقاتليه أدت عرضاً عسكرياً لا يبدد غرابته في هكذا مناسبة سوى اعتباره رسالة فظة مفادها أن الوريث يحظى بحماية طهران. تلك الرسالة كانت تتويجاً لمسار متصاعد من العلاقة بين الطرفين، وقد اكتسب زخماً أشدّ مع مرض حافظ الأسد وانشغاله بلا منازع بتوريث ابنه وضمان الحماية له. في النصف الثاني من التسعينات انتهى زمن التوازن الذي كان الأب يقيمه أحياناً، ويوحي به أحياناً أخرى، بين علاقاته الخليجية وعلاقته بإيران لصالح الأخيرة. سبق ذلك كما هو معلوم حل الميليشيات اللبنانية وتسليم سلاحها في مستهل التسعينات، باستثناء حزب الله الذي صار له ما يشبه دولة داخل دولة تمهيداً للسيطرة على الثانية.
غالباً يُنسى مسار العلاقة لصالح تصوير بشار كأنه اضطر إلى الوصاية الإيرانية بسبب الثورة، وما تلاها من مقاطعة وعقوبات غربية وعربية، في حين أن التدخل الإيراني لحمايته سبق المقاطعة العربية والغربية، وكانت الثورة كاشفة لجهة إظهار ما هو سابق عليها. علاقة الأسد-طهران صارت مع توريث الابن أبعد من السياسة، وحيث لا يمكن اتهامه بالمبدئية فإن العلاقة أصبحت عضوية ضمن سياق من المصالح المتكاملة، أي أشمل من الأموال الموضوعة فوق الطاولة أو تحتها كإغراء للتخلي عنها. هذا على افتراض أنه قادر على اتخاذ القرار، وأن طبيعة العلاقة لم تسلبه هذه الميزة.
حتى في التعويل على دور روسي لإبعاد بشار عن طهران، أو لإبعاد طهران ونفوذها، يُنسى مجيء التدخل الروسي بالتنسيق التام بين الجانبين، بل قيل بطلب من قاسم سليماني. خلال ما يزيد عن ست سنوات لم تلبِّ موسكو الطلبات أو التمنيات المتعلقة بإبعاد إيران، ومصالحها لا تقتضي هذا النوع من الاشتباك، وإن كانت لا تمانع الاستفادة من قطف ثماره إذا أثبت طرف آخر قدرته على التقليل من الوجود الإيراني، مع مراهنة روسية محدودة على الضربات الإسرائيلية إلا أنها تبقى واقعية أكثر من المراهنة على الجزرة الخليجية.
إما أن تبرير الاندفاعة الخليجية فيه غفلة فادحة، أو فيه استغفال صارخ للعقول، وأفضل رد عليه ثناء وزير الخارجية الإيراني على زيارة نظيره الإماراتي إلى دمشق أثناء اتصاله به. في الأصل، وباستعارة من الإعلام الروسي، لا تستقيم معاداة الكلب وملاطفة ذيله، إلا إذا كانت الملاطفة على سبيل التودد إلى الكلب.
المصدر: المدن