خليفة الخضر
طلب المقاتل أن أساعده بنشر عدة كلمات، كخبر على الشريط الاخباري لقناة “حلب اليوم”. مضمون الخبر، أنه تم قتله في إحدى المعارك ضد “داعش” وجثته تم التمثيل بها، ولا أثر لها، فقط مقابل ما أريده من مشروبات كحولية، أو مساعدتي بما يستطيع فعله لي.
السبب من كل ذلك، هو أن يقرأ أهله في مناطق سيطرة النظام الخبر، وإطلاع المخابرات الجوية على الخبر، والتي ستطلق سراح والده، الذي تم اعتقاله إثر مقطع فيديو، خرج فيه المقاتل يكبر، ويصرخ بالحرية لسورية في إحدى مناطق الاشتباك، إذ كان شرط فرع المخابرات الجوية، أن يسلم نفسه مقابل حرية والده، لكنه لا يستطيع ذلك، طلبته منه والدته ألا يسلم نفسه، فلا أمان لهم.
ألَّح بنشر الخبر، وعرض خدماته، وأخبرته أن غيرك لم تنجح خطته في ذلك، ولم يطلقوا سراح المعتقلين، وربما سيتم اعتقال والدتك، إثر إخبار المخابرات الجوية بالخبر، فلماذا تشاهد قناة مغرضة في مناطق سيطرة النظام! ولكن لا بأس، سأساعدك وأنشر الخبر على صفحة إخبارية، وسأصور لك الخبر كصورة، وأرسله لك، وأنت بدورك، أرسله لأمك، وأخبرها أن تقول لهم: إنها صورة أرسلها لهم أحد الأقرباء خارج البلد. عسى الله، أن يكتب الحرية لوالدك.
في شرفة المكتب، يصنع الشاي بنفسه، وعلى صوت الغاز الذي يحركه نسمات الهواء غير المنتظمة، يقترح، أن يتسلل ليلاً إلى إحدى نقاط الجيش السوري، ويأسر أحدهم، ويتواصل بنفسه مع المخابرات الجوية، ويفاوضهم عليه مقابل إطلاق سراح والده.
كثير الحركة هذا المقاتل وخدوم، شق الكيس الأسود، ووضع حبات البزر عليه، وكيس أسود أخر فتحه وشقه، لوضع قشور البزر عليه. نجلس ونمد أقدامنا على سور شرفة مكتبي. أخبره: من هو الذي سيطلق سراح أسير من الجيش، مقابل والد مقاتل بالجيش الحر؟، فمن اعتقل والد مقاتل لا ذنب له، ليس لديه ثقافة إخراج مقاتل تابع له من سجون الجيش الحر، لدى الجيش الحر العديد من الأسرى من الجيش النظامي، وعمر أحدهم في السجن قد يصل العام ونصف العام، ولم يطالب به أحد، ولم يخرج في المقابل أحد.
يدخل ويخرج من أحاديث تولد النقاش، يعلو صوته، وأحياناً يصمت، أحاديثه عن الحياة ما قبل الثورة، والتنقل الحر بين الأحياء، ولكن -يقاطع نفسه ويستأنف الحوار- عن أي حياة وكنا مهانين، لأبناء فلان وفلان (أسماء لعوائل أفرداها كانت تعمل في مجال التشبيح منذ قبل ال ٢٠١١) نسمع مع شرب الشاي ومشروب الطاقة، صدى لأصوات القذائف المتراشقة.
نحن في الطابق الرابع، من بناء يتأخذ شكل زاوية، الشرفة تطل على الاتجاه الجنوبي، نشاهد من خلالها حي الجزماتي بأكمله، مع حي المعصرانيّة، وبضع حارات من حي طريق الباب، المكتب في حي الحلوانيّة، وضمن شارع يسمى شارع المواصلات، عريض جداً، نقاط الاشتباك لا تبعد كثيراً عنا، وبُعدها متساوٍ نوعاً ما، حي كرم الجبل خلفنا، والذي يعتبر خط جبهة باردة، يتخلل ليلها رصاصات وقنابل متقطعة، يتبادلها أفراد كلا الجيشين، أمام المكتب مباشرةً، كل من حي كرم الطراب وكرم القصر ومعامل الزيوت، التي يتحصن به الجيش ومقاتلي حزب الله، وعلى الجهة الشرقية من المكتب، اللواء ٨٠ الذي يتحصن به عدة فصائل أفغانية ولبنانية تقاتل مع الجيش النظامي، وبالجهة الشمالية، تلة الشيخ يوسف، التي بسطت ألوية ايرانية و لواء القدس الفلسطيني سيطرتها عليه مؤخراً، بعد عدة غارات جوية، حولت التلة لعدة جبال من الدخان الأسود والرمادي.
إذاً، من جنوبي وشرقي وغربي المكتب، خطوط رباط، لا تبعد أكثر من خمسة كيلو متر عن المكتب، يتوسط المكتب عدة خطوط رباط منها باردة، إذا ما قورنت بخطوط الرباط الأخرى، الليل لا ينقطع من صوت صدى القذائف، وصوت خروج القذيفة وسقوطها، أو رشقة من رصاص من نوعية دوشكا، أو رصاصات في السماء خطاطة، نعلم أنها لغة محكيَّة عسكرية، بين جواسيس كلا الطرفين، إذا ما أرادوا إيصال رسالة لمن يعملون لصالحهم، ثلاث رصاصات ورصاصتين ورصاصة بين كل منهما فارق زمني بسيط، ليرد عليه الأخر برصاصة، تلي رصاصة، تلي رصاصة، يُراد الايصال منها، أن الرسالة قد وصلت، و أصوات لغارات طيران الميغ ليلاً.
وهكذا يومياً، وكأنها جزء من حياتنا المعتادة، اتخذت مكان المكتب، وفقاً لنصيحة من أحد الأصدقاء، مبدي لي أن المكان يسمح لي بمشاهدة المعارك، والغارات، ويختزل لي السير على الأقدام، أو انتظار دراجة نارية لأحد المقاتلين، أو ركوب الدراجة الهوائية، واكتفي بتسجيل فيديو يظهر دخان الغارات، والقذائف والبراميل من مكاني، أما أنا فلن أموت ” شيطان لن تموت، لا تخف من فكرة الموت، ولا تجعلها تستملكك” يقول صديقي، نصبت حامل الكاميرا على الشرفة، أضبط عيارات الحامل بسهولة التحكم به، وتغيير اتجاهه، بحسب مكان الغارة أو القذيفة.
بعيداً عن أصوات القصف، والمعرفة المسبقة بنوعية الغارة، إن كانت برميل متفجر، أو غارة ميغ، أو قذيفة مدفعية، فأحياناً تسقط القذيفة في منزل حجري، بناءه من حجارة القرميد، والنتيجة غبار كثيف، أحياناً أخرى، برميل يسقط في مكان برميل أخر، ولا ينفجر، أو في أرض زراعية، ولا يصدر إلا غبار قليل، لذلك لا ينبغي ربط حجم الدخان، والغبار بنوعية القذيفة، وينبغي للتأكد، مقاطعة لون الغبار والصوت المرافق للغارة، والمكان الذي وقعت به، فالأحياء الشعبية، والمتداخلة بين أبنية ذات طوابق، قد يجعل الصفحات الاخبارية والقنوات، تنشر الخبر إن غارة جوية لطيران ” النظام السوري” تسقط على حي كرم القصر، وعند التأكد من الخبر، يكون مسبب الدخان ليس غارة، وإنما قذيفة، إذا ينبغي مقاطعة الدخان والغبار والناس، لمعرفة نوعية القصف، لئلا أكذب بنشر الخبر.
أضع الكاميرا قيد زر التشغيل، ليلاً ونهاراً، استلقي على الفراش، وبقربي عدة علب فارغة لمشروب الطاقة، تاركاً عدسة الكاميرا، تأخذ صور، للمنازل تُصبَر بعضها بعضاً.
يتراوح وقتي، بين تبديل بطاريات الكاميرا، وبين الجلوس على الكرسي، ومد قدماي على سور الشرفة، وبين التمدد على الفراش، والنوم أو تصفح الانترنت، ومشاهدة عدة أفلام وثائقية، عن العالم، وعن حياة الغابات، وثقافة بعض الشعوب.
قد سببت كثافة مشاهدة الغارات، تلوثاً بصرياً، فلا اللون الأخضر للأشجار ظل أخضراً، ولا الحجارة البيضاء للأبنية ظلت بيضاء، تلوثت الألوان، أخذت تذهب بلونها للقتامة، أكثر من لونها الطبيعي، أحياناً أشاهد أفلام عن الحروب، علني أجد شيء ما يشبه ما يحدث معنا، وفي أحيائنا، لكي أتقاسم الوجع مع غيري، وإن كان لا يعرفني.
لا يمر يوم دون ملئ كرت الذاكرة للكاميرة، وانتقاء بعض الفيديوهات والصور لنشرها، يحل الليل وتحل معه أحاديث الحياة الشخصية والعاطفية، وهموم الشباب، تذكر أيام الجامعة والحياة الجامعية، والمصير المجهول، بينما في النهار لا تفكر إلا بالوقت بين البرميل والأخر، تفكيري ينحصر بألا يكون في مكان البرميل عائلة، ولا تسبب الغارات بقطع الطرقات، وتدعوا الله أن يكون البرميل فقط في منزل قاطنيه ليسوا فيه، تدعوا الله بخسارة دون خسارة، وفي الليل تناقض نفسك بما تدعوا الله به.
تذكرت في أحد الليالي، فتاة كنت قد عرفتها في الثانوية، أحببتها لنفسي، لا أعرف كيف أصف هذه العلاقة، هي لا تعرفني أبداً، لا تعرف من أكون!، لا تعرف بالأساس أنني أتبعها عندما كانت تنزل من سرفيس حي طريق الباب، عند أول جسر الشعار من الجهة الشمالية، وتسير إلى منزلها في حي ضهرة عواد، خلف حديقة الحي الصغير، تسير في سوق سد اللوز، ومن ثم تميل يساراً إلى مشفى البيان، ومن أمام مشفى دار الشفاء، تميل يمنة باتجاه حديقة ضهرة عواد، إما أن تدخل الحديقة، أو تسير بالقرب من سورها، لتدخل شارع منزلهم، لتغيب في ظلام ممر البناء، في البداية تتطابق طريقي مع طريقها صدفة لمرتين في أسبوع، تعلقت بها، أسير خلفها، أظن الناس تراقبني، افتقدتها يوم السبت أثناء انصرافي من العمل، خفت ألا أراها مرة أخرى، لكنني تذكرت أن اليوم عطلة مدرسية، لم تدم علاقة المطاردة، والتتبع هذه إلا عدة أسابيع، لم أمتلك الجرأة لفتح الحوار معها، لم تتطابق أحلامي التي أخيطها لنفسي معها، وكل ما أبنيه وأهدمه أثناء السير خلفها وهي لا تدري، أقول لنفسي أنه الحب، أن تصادف فتاة يتطابق طريقك مع طريقها.
لربما سقط برميل على منزلهم! قطع هذا الخاطر سلسلة الصور التي تذكرتها مخيلتي في جنح الليل.
وجدتها ووجدت منزلهم الناجي من البراميل لحد اللحظة، خططت لجلب رقمها، للتحدث معها وكان الأمر أسهل مما اتوقع!
كل الأحاديث المتخيلة، وكل الطرق والخطط، وخطط الانسحاب والحجج، تهاوت عندما طلبت من ممرض في مستوصف يوسف العظمة في حي ضهرة عواد، يسكن في نفس شارع الفتاة التي أحببتها منذ سنوات، طلبت منه أن يؤمن لي صلة تواصل معها، قبل الانتهاء من تبريري، لما أريده منها، بحجة إجراء لقاء عن الطالبات المنقطعات عن الدراسة الجامعية، بعد اعتقال النظام لعدد منهن بحجة مشاركة أحد أفراد عوائلهن بالعمل المسلح ضد الدولة!
لم أضطر للتكملة مع الممرض حتى قال لي: نعم أعرفها وسأعطيك رقمها بعد طلب الإذن منها، وهي لن ترفض.
نسيت فكرة أن أنجز التقرير!
بربك يا صاح قلت لنفسي، لماذا لم تطلب جهة تواصل غير الرقم، عن أي رقم، وأي شبكة تتحدث، وهل تريد للفتاة أن تُشل يدها، وهي رافعة إياها في السماء، لكي تصل رسالة على تطبيق واتس اب، أو تعلق الشبكة في حال تواصلت معها عن طريق مكالمة هاتفية!؟
لا يهم، اشتريت في مساء أحد الأيام، ومع خلو السماء من المروحيات، كرت أو خط جوال، عليه علم بلدنا الأحمر، من أحد المحلات في حي الشعار، المحلات التي حال عدد البراميل المتكررة على الحي، من تحويل جمالية محال الاتصالات الملونة، إلى أبواب من أكياس النايلو، وأعواد الخشب مرسومة على شكل إشارة ضرب، بعد ملل صاحب المحل، من إعادة تركيب جام المحل، عدة مرات بسبب الارتجاج الذي يحدثه البرميل، اشتريت الخط، صاحب المحل، أخبرني أن علي أن أصعد إلى سطح البناء، الذي أسكنه وانتظر حتى يتم تفعيل الرقم على تطبيق واتس اب، لكن لدي طريقة أخرى تعلمتها من ذاك المقاتل صاحب خبر مقتله، عندما أخبرني أنه يتحدث مع أهله، من نقطة الرباط القريبة من نقاط رباط جيش النظام، وهناك ( الخط الفاصل عسكرياً)، يوجد تغطية فعالة لخطوط الاتصالات، بعد شراء الخط، صادفت أحد المقاتلين، عندما كان يبحث عني في شارع المواصلات، بعد أن طرق باب المكتب ولم يجدني، إنهم أي كتيبتهم سيستهدفون مقر قيادة المطار بقذائف الهاون، مقر قيادة للجيش النظامي، أي ضابط وضباط موجودين فيه وهؤلاء _ إي الضباط _ لا يستطيعون العيش كل عمرهم ، بدون شبكة اتصالات سريعة، إذاً سأقوم بتفعيل برنامج الواتس اب، بينما هم يضربون الهاون، وكامرتي تتفهم ما أريده ستقوم هي لوحدها بتصوير استهداف مبنى قيادة المطار، وتسجل الفيديوهات لهم، بالفعل حدثي لم يخوني، الشبكة ممتلئ، والاشارات الأربعة تزين موبايلي، فَعلت الخط، وأرسلت شركة الاتصالات، رسالة تذكرني بحكومة الأسد والحياة ما قبل الثورة بنبرتها.
كم هو صعب الحب، وكم سهل تعقب الطيران المروحي في السماء، فتعقب شبكة الاتصال، جداً صعب، ثمة عدة زوايا في الأحياء، وأمام منزل مختار الحي، وفي طلعة الحديقة، وفوق الأبنية ذات الطوابق الخمسة وبالقرب من خطوط الجبهات، في هذه الأماكن يوجد شبكة فقط، وقيل إن منازل الجواسيس للنظام مخدمه بالشبكة، لإرسال ما يحدث في مناطق سيطرة الجيش الحر، لو يوجد جاسوس في شارعنا! لأخبرته ما يحدث، لا يهم واستفدت من التغطية، يومي يتقطع بين طائرات مروحية تقصف بشكل عشوائي نهاراً، وليلاً غارات للميغ وقذائف مدفعية، ونفس تريد التحدث ع تلك الفتاة، التي صادف طريقي مع طريقها عام 2009 أي قبل خمس سنوات من الأن..