خليفة الخضر
في المكتب يوجد إشارتان فقط من التغطية السورية، وأحياناً إشارة واحدة، وهذا لا يكفي لإيصال رسالة على تطبيق واتس أب، لذا، في اليوم التالي، ذهبت إلى المستوصف لأخذ وصفة علاج الاضطراب الذي يصيبني، رقم الفتاة الذي اسمها عائشة، يدلعها أهلها ـالوحيدة لهم- بعويش، نسبة لجدتها، وهي الآن تتعثر بدورات التمريض، تكره الجيش الحر والنظام مع الجيش الحر، وإذا ما اتهموها من حولها بالتشبيح، ترد عليهم لتأكد كرهها للنظام، إنها تكرههم (الجيش الحر) وتكره النظام أولاً، سبب كرهها لكلا الطرفين، كما خطر على بالي، من تقرير مُسَجل عن الفتيات اللواتي تركن دراستهن.
كانت عويش، قد أنهت الثانوية التجارية، وحصلت على مركز يسمح لها بدخول كلية الاقتصاد، دخلت الكلية، وفي سنتها الثالثة، انقطع الطريق، وتم إغلاق معبر بستان القصر، المعبر الواصل بين كلا طرفي المدينة، ومع السفر الذي قد يطول لأكثر من اثنا عشر ساعة، للوصول إلى مبنى الجامعة بعد إغلاق المعبر، بعد أن كانت المسافة لا تتجاوز الخمسين دقيقة، كنا نعتبرها كثيراً في باص النقل الداخلي (الدائري شمالي).
على إثر إغلاق المعبر، منعها أهلها من استكمال الجامعة، وعدم رغبتهم بسكن ابنتهم الوحيدة، لوحدها وبعيداً عنهم في تلك المناطق، بالقرب من الجامعة، وخوفاً من اغتصابها، أو اعتقالها، أو كل ما يخطر في بالهم، من فال سيء.
كل ما سبق، قالته عائشة لي، من أول حديث معها عبر تطبيق واتس أب، ربما تكتب لنفسها، أو تشكي همها، ليس بالضرورة، فتح قلب الأخر للأخر هو الحب، قد يكون إزالة للهم، لا تعرفني، ولا تعرف أنني راقبتها يوماً ما، كل ما تبنيه العواطف على شبكة الاتصالات، تحطمه أو تغذيه نظرة حقيقة في عيون الأخر.
ترددت بدايةَ بالحديث معها، عن ترتيب لقاء حي في مكان ما
لكن اليوم أتحدث معها، وغداً قد لا تراني أو أراها
أريد رؤيتك في الحديقة –
– لا مانع
– هل الأمر يسبب لك مخاطر؟ وربما الناس تأخذ صورة سيء عنك؟!
– أي ناس؟
هل هذا تمرد، ما أقوى شخصيتها
– لا تخافين منهم ومن كلامهم؟
– لا لم تفهم قصدي، عن أي ناس تتحدث؟! هل يوجد ناس؟ في الحديقة كانت المشاكل لا تنتهي بسبب زحمة الناس، لكنهم نزحوا أو ماتوا!
– إذاً غداً؟
– لا الأسبوع القادم
أتكلم معها، يداي تتشنجان من مدهما باتجاه السماء مداورة، علَّ الرسالة تصل بسرعة، أثناء جلوسي فوق غرفة المحلق لأحد الأبنية الملاصقة لمبنى المكتب، وهي كذلك الأمر، فبناءهم مهجور، إلا منهم ومن منزل عمها، لها حرية التنقل داخل البناء، وعلى سطحه، ولها حرية اللباس، كما تقول لي أنها فوق البناء بدون حجاب ترتديه على رأسها، فلا أحد يراها، ولا أحد موجود بالحي بالأساس، إلا القليل القليل، الذين إذا ما جمعتهم، ووضعتهم في ثلاثة أبنية (أي ٤٥ شقة، ففي كل بناء خمسة طوابق، وكل طابق فيه ثلاثة شقق)، قد تبقى عدة شقق فارغة ولا تمتلئ بكل من تبقى بالحي.
ما يحدث مع كلانا، أننا نراسل بعضنا، أمد يدي وأقف، أقفز بحذر أحياناً كي تصل الرسالة، بسبب ضعف الشبكة، وسرعان ما تأتي رسائلها على دفعة وحدة كرشقات رصاص دوشكا.
بالختام، نتبادل رسائل الاهتمام بأنفسنا، وأن ننام بحذر، أو أنام في قبو البناء، كما تفعل هي وأهلها وعائلة عمها تجنباً للقصف.
كأن كل منا يريد أن يُرسل له الأخر رسالة الاهتمام، كأن كل منا يريد أن يشعر أن هناك من يشبهه، ويعيش عيشته ويقاسمه وجعه في نفس الحي، ويهتم به.
أخبرها أنني لن أموت، وأنا وأثق بما أقوله، ليس تعالياً على قدر الله، ولكن يقيناً به، وإن متت فلا أحب ميتة القبو، أشاهد من شرفة منزلي، ومن فوق غرفة الملحق عدة أحياء من حلب، ومن فوق غرفة الملحق، أشاهد من بعيد، عدد من أحياء حلب التي يسيطر عليها النظام،
فإن متت فميتة شاب أخر ما شاهده أحياء مدينته.
تدور الأحاديث مع عائشة مساء كل يوم، تسألني كيف تعرف كم عائلة موجودة الأن في شارعكم؟
أجيبها، أرصد دخان الحمامات الأن من فوق غرفة الملحق، أمامي سبع مداخن يتصاعد منها الدخان، رائحة الملابس، والخشب تأتي مع نسمات الهواء القليلة.
خلال اليوم، لا أفكر بها ويصعب علي التفكير بعائشة، ولا بالتفكير بالخواطر، التي تحث نبضات قلبي بالحب، لا حب في زمن الحرب، فالقلب ينبض إما خوفاً أو حباً، في النهار خوفاً وترقباً للسماء، وفي الليل حباً مع ترصد القصف، بهذه الكلمات فسرت ظاهرة، عدم تفكري بها نهاراً وشوقي لها ليلاً.
نتحدث، تحدثني عن حلمها بالعودة إلى الجامعة، وركوب باص الدائري الشمالي، التي كانت تقرف ركوبه وتركب تكسي أو سرفيس، في أغلب الأحيان، وتتمشى للتفكير بدراستها، ودروسها أثناء المشي من جسر الشعار إلى منزلها، كأني لا أعرف هذه المعلومة عنها.
طلبت مني، في حال لدي لبس متسخ، فلا بأس بإعطائها إياه، لغسله وإعادته، خجلت منها ومن طلبها، ومن نفسي، ولم أستطع إخبارها أن نظرتها عني ليست كاملة.
لا تعلم أنني لا أغسل ملابسي ولا أهتم بأمور المنزل كثيراً ولو تشاهد فوارغ علب الطاقة في المنزل لغيرت رأيها وأنني اعتمد بفطوري على فوال لا أضطر لغسل أي شيء، وبالنسبة لمسألة الغداء والعشاء المدمجان مع بعضهما على سندويش بطاطا، إما من فروج الشرق قبل تدميره، أو إلى عمي أبو علي في حي الشعار، والغسيل فزوجة ابن عمي تتكفل بالأمر كوني قريب لها، هي بمقام أختي الكبيرة ولا خجل بيننا.
وضعت كنزة نظيفة وبناطلين نظيفين مغبران قليلاً، أخبرتها أنني سأقوم بما تطلبينه.
نُصبَح على بعض وندعو للخير لكلانا وننام، أشك بذلك، ربما قطع الحديث بحجة النوم ما هو إلا مبادرة وتخوف من تصعيد بالعلاقة في ظل حياة سوداء كل ما فيها أسود، لا المستقبل مستقبل، فبرميل واحد يغير مجرى حياة عوائل بأكملها ويكتب تاريخ لهم، أو شظية تولد بتر لدى أحدنا تُسبَب لنا نكوص أبدي، لا ماضي نستطيع التأقلم معه والتعاطي معه كأمر محسوم لابد منه، مع كل صورة من صور الماضي تخيل يرافقه تمني بتغيير بعض الأمور.
الحذر من علاقة عاطفية تحت سماء أحياء البراميل، لابد منه، كالذي يشرب الخمر ويعي ما يفعل، ولا يطلق العنان للحيوان الضامر داخله، ويشرب دونما وعي.
أعيد قراءة المحادثة بيني وبين عائشة، أتفكر بدلالات كلماتها، ودلالة كل جملة، وبأخطائنا الاملائية، التي أُرجعها لثقل عاطفة الكلمة قبل نطقها، وثقل المشاعر التي تحملها الكلمة، لتخرج الكلمة مبتورة حرف أو مشوهة همزة.
في جنح الليل، اسمع خطوات بني أدم، لها لحن ووقع على طريق مليء بجور، أو بقايا شظايا أو زجاج لنافذة مكسور، حجارة الأبنية، تتقدم خطواته تحت بناء المكتب، مع سماع أصوات أدعية وحولقة وحَسبلة، ورجاء من الله، الفرج على جميع عباده، هو المؤذن يذهب لرفع أذان الفجر، راقبته، حتى ابتعد عني، لم أراه في العتمة، ولا ضوء قمر ينير لي الشارع، ولا حتى ضوء القداحة يَصل له، من على صوت خطواته، راقبته بعيني، يدعوا المؤذن الله بعودة الأهالي، كل الأهالي، ربما دعاءه للقضاء على وحشته وربما يدعي بصوت مرفوع، خوفاً من خروج لص له في مثل هذا الوقت، أو ليسلي نفسه، هو ذاته المؤذن، الذي يعرف طريقه منذ زمن، ولم يغيره اعتقال قوة الأمن للمتظاهرين من باب المسجد، ولا من طلب الجيش الحر التكبير قبيل وبعد كل معركة، ولا حث جهادي القاعدة وداعش الشباب للجهاد، ولم يثنيه قصف المساجد بالبراميل، أن يُرخص نفسه ويبقى في منزله، أصعب ما فكرت به أثناء تعقبي له، بصبره وجلده وتعلقه بالمسجد، لا يوجد في الحي إلا القليل، القليل، بالنسبة لأهالي الحي، وفي السابق، صلاة الفجر لا يصليها إلا القليل، فكيف الأن؟! من سيصلي؟ لمن يؤذن؟ من سيعاقبه أو يدقق عليه؟ إذاً، لمن يؤذن؟
أسئلتي هذه، عادت بي، إلى جملة قلتها لصديقي أثناء إحدى المحاضرات في الجامعة، جامعة حلب، عندما خرج أغلب الطلاب، بقيت، سألني، هل تفهم ما يقوله المحاضر؟
أخبرته بلا، ولكن هو ـ المحاضر ـ تعب واجتهد، علي أن أسمعه، ولا أجعله يكفر بالعلم، لأن لا يوجد طلاب تحضر له، لسنا مضطرين لمعرفة من هو على حق، طريقة المدرس أم فهم واستيعاب الطلاب.
صدى خطوات المؤذن، دفعني للذهاب للصلاة، توضأت في المسجد، هدوء وسكينة وإنارة “لدات”، بالكاد أرى خطواتي، عدد من المصليين المعمرين، يحملون بأيديهم، إنارة خاصة لتعقب كلمات المصحف، سكون، يقطعه صوت تقليب صفحات المصحف، و فتح باب المسجد وإغلاقه، فتح حنفية الماء وإغلاقها بسرعة، إذا ثمة إعلان، كنت قد قرأته في أحدى صلوات الجمع، عن تقتير الماء، بسبب انقطاع الماء وملئ الخزانات بمياه الجوفية.
صلينا الفجر، قرأ المؤذن فينا من سورة الحج: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، بالكاد كنا ثمان مصلين، والمؤذن ذاته الإمام، عدد من سائقي سيارات التكسي، والمؤذن، ورجلان مسنان.
عدت أفكر بعائشة، وبمحادثتها وعن سخطها من أبناء تلك الأحياء، (الأحياء التي يسيطر عليها النظام السوري) التي يوجد فيها كهرباء، وحياة طبيعية ولا يتوترون من صوت المروحية.
– من أين عرفتي ألا تنقطع لديهم الكهرباء؟
– من فوق البناء، أشاهد الإنارة قادمة من هناك، وكأنها مدينة أوربية
– ربما كلامك فيه شيء من الحقيقة، ولكن ما ترينه هي إنارة المقاتلين من الجيش، واللجان الشعبية، المتمركزين في قلعة حلب، والإنارة التي تقصدينها، مسلطة بوجه نقاط الرباط المتواجد فيها الجيش الحر، خشية من تسلسل الجيش الحر، وزرعه لعدة ألغام في سفح القلعة، أو اقتحام القلعة، ما تشاهدينه ليس إنارة منازل من يسكن هناك.
– لكن يوجد كهرباء
مع شروق الشمس، أعود للتفكر بالطيران وسماء حلب، تخيل لو سقط الرئيس، ما هو موقف الطيار؟ هل سيرمي الزهور لنا بدل البراميل، وماذا سيفعلون بكل البراميل التي جهزوها لنا، بغية تهجير الناس وترسيخ في عقولنا، لا حياة رغيدة، إلا في ظل سيطرة الرئيس.
يغالبني النوم، مع مشاهدة مقاطع متفرقة على اليوتيوب، لمقتطفات من أعمال درامية سورية، كيف ينام ويجاهد النوم من ليس لديه انترنت، وبماذا يفكرون، ويفكر أولادهم لطرد الخوف الذي نعيشه؟
ارتجاج البراميل، برميل قريب، برميل بعيد، الشعار، كرم الجبل، الميسر، الجزماتي، ربما منزلنا، ربما مات كل من في الحارات خلف تجمع المدارس، في حي الجزماتي.
استيقظ، كأنني لم أنم، ثلاث مروحيات في السماء، الوجوه تنظر إلى السماء، وتفكر أين سيرمي الطيار، وأين ستقع البراميل، وجوه تنظر إلى السماء، وكأن تحريك الرأس لوضيعة غير النظر إلى السماء، يعني موت محقق.
يبتعد الناس عن المشافي كونها مستهدفة، براميل تسقط في حي ضهرة عواد، حي عائشة، أذهب إلى هناك، لا تغطية حتى أستطيع الاتصال بها، أصعد فوق بناء، حاملاً دراجتي الهوائية للطابق الثاني، لأحد الأبنية، أضعها في أحد المنازل، خشية من السرقة..
يمر اليوم، أثناء صفو السماء من البراميل، عدت لتفكير بعائشة وبمحادثتها وعن سخطها من أبناء تلك الأحياء (الأحياء التي يسيطر عليها النظام السوري) التي يوجد فيها كهرباء وحياة طبيعية ولا يتوترون من صوت المروحية.
أعود لفتح المحادثة بيني بينها، كانت قد كتبت لي عن حقدها على أبناء الأحياء الغربية:
– لكن يوجد كهرباء
يوجد في بعض الأحياء دون أخرى. –
! مثلنا –
– مثلنا، نعم
– هل أنت معهم، هل الحياة هنا تشبه تلك الحياة؟
– ما الفرق؟
يكفي عندهم جامعة، يستطيع الطلاب الذهاب إليها دون الخوف من القنص أو من برميل، وإن كان برميل أو صاروخ، لكن يوجد جامعة وطلاب وطالبات.
فكرت بداية ستدخل لي من مدخل أن من يسكن هناك مؤيد للأسد وما شابه _ استغربت _ لكنها تحدثت عن وجعها الخاص بفتاة بعمر العشرين.
تعود المروحيات إلى سماء المدينة، يرمي بحمولته بعيداً ومن ثم تصفو السماء، اذهب بالدراجة الهوائية، وضعت عدة قطع من ملابسي، في كيس أسود نظيف، ذهبت إلى بناء عائشة، اتصلت بها، بعد صعودي إلى سطح بناء، ووفقاً لما خططناه، أعطيها الكيس عن طريق رميه بعد وضع حجرة كبيرة فيه ليحمل وزن، وأرميه على شرفة منزلهم.
تأشر لي بيدها أن الكيس وصل.
أشعر بالنعاس، أعود للنوم في المكتب، أغلق النوافذ منعاً لتسرب الضوء، أغلق الباب من الداخل، أغلقه ومن ثم افتحه.
أتخوف من موتي، وعدم استطاعة الدفاع المدني بفتح باب المكتب، واضطرارهم لكسر القفل، المكتب أمانة، وليس لي حق بالسماح لأحد بخلع الباب.
أترك باب المكتب مغلق بقفله العادي، الذي ربما يُفتح بأي اهتزاز ناتج عن برميل.
أتقلب، لا أستطيع النوم، صداع، الشرود بسقف الغرفة والتشققات في الطلاء، أفكر بطريقة للنوم، أعوز سبب عدم النوم هي اتجاه الغطاء.
تم توزيع العديد من الأغطية من المملكة العربية السعودية، مرسوم عليها نخلة، إذا ما كان اتجاه أغصانها نحو وجهي والجذع عند قدماي، أشعر بالارتباك، والعكس يسبب لي ارتباك وتقلب، أغطي نفسي، بحيث تكون النخلة مطابقة لرأسي وقدماي، أفكر بأمور لا تخطر ببالي، أتذكر أمور غبية وغريبة، ماذا لو سقط الأسد اليوم؟!
بالله عليك، مع كل هذه البراميل التي يرميها علينا تفكر بسقوطه؟
أنام..
يحل المساء، تعود الحياة الطبيعية، ويخرج الناس، إلى الشوارع، ترسل عائشة لي، رسالة أن والدها سيسافر إلى تركيا، والعائلة، لن يبقوا أكثر مما عاشوه، أحد البراميل سقط في البناء الخلفي لهم، لكنه لم ينفجر، ولولا لطف الله لماتوا، قرأت عبارة: لولا لطف الله بنبرة والدها، التلفظ بها ليس من نبرتها.
ماتت عائشة بهذا البرميل، قلت لنفسي علني أخفف من وطأة غيابها الحتمي.
أطلب منها رؤيتها، إن كان ولا بد.. تطلب مني انتظارها قبيل الساعة السابعة في حديقة ضهرة عواد، أطلب منها تغيير المكان لأسباب تسبب لي اكتئاب، لا وقت ولا جلد لدي لشرح الأسباب، أوافق، متعلق بهذه الحديقة رغم ما جلبته لي من مأسي، غرزة وجع الأماكن في القلوب تضاهي الحفر التي تسببها البراميل في الأراضي.
لن أستطيع النوم، أحاول النوم، لكني مدرك ما يحدث، وسأحاول أن عيناي، تأخذ التقاط صور لها، وأسجل صوتها في أذني، علني كلما تذكرتها استعدت تلك الصور والصوت.
عن أي نوم أتحدث! بالرغم من قلة نومي اليوم إلا أنني لم أستطع النوم، أتقلب بجسمي، أشاهد فيديوهات مبعثرة حتى الملل، وأغلقت شاشة الاب توب ونزلت إلى المحل، وجدته مغلق، فتشت ليلاً مستعين بإنارة جهاز الجوال للإنارة أمامي، وجدت محل في الحارات الخلفية، صاحبه يتقن السمع، يوجد أمامه عدة دراجات نارية لعدد من المقاتلين، يتحدثون عن أيامهم ومعاركهم وأحقيتهم بالغنائم وأحقيتهم بالنصر، وأن ما يفعلونه من انتهاكات، لا يكون جزء، مما فعله الأسد.
يتبادلون فيديوهات لمقاتلي تنظيم الدولة ومعاركهم، يختلفون على أن الدولة الإسلامية على حق، أو لا، يقول أحدهم: يكفي أنها تقاتل الأسد، بينما فصائلنا أخر طلقة نحو الأسد، كانت منذ تحرير هذه الأحياء.
يتراشقون التهم بينهم، ويكفر أحدهم برب البغدادي ولو أسقط الأسد.
لن ينسى المقاتل ما فعله التنظيم بفصيله ومقاتليه قبل أن يحدث أي شيء بينهما.
– غدارين … إيرانيين … شبيحة.
يرد عليه أخر: فصيلكم يسرق
يرد: لو سرق كشمة من السماء … من هم ليقاضونا، ولم يروا إلا نحن من السرقات؟ وهل حكم السارق القتل والخطف والتغييب؟!!!
نشاهدهم كيف يشاهدوننا في قرية الطعانة، وقرية تيارة، نقاتل الأسد وهم يشاهدننا، ويحمون ظهر الأسد في اقتحامه علينا.
لا يستطيع المدافع عن التنظيم البقاء على كلامه، فالتهمة جاهزة، وكم مات مدافع عنه، أو مات مجادل ببعض القضايا، إثر جدال، انتهى بقتل المجادل في ذات الجلسة.
المحلات ليلاً، كالمقاهي في مدن أخرى، أو في الأحياء الغربية من المدينة، تلك التي يسيطر عليها النظام.
يوجد بائع سندويش يضع عدة كراسي أمام محله، والقطط تحوم بين قطع اللحم المشوي، يوجد أيضاً، مطعم الشافعي في حي الكلاسة، ومحلات قليلة تتأخذ شكل مقهى، لكن قلة عددها، وتباعد المسافات فيما بينها، حَوَّل محلات الاكسبريس، والمحلات الصغيرة، التي تبقى حتى منتصف الليل، لمقاهي، الأحاديث، التي تدور أمامها تحرر سورية، وتبقي الأسد، وتُسبب بتمدد التنظيم، وتخوين النصرة التي غدرت بالتنظيم، والعديد من الحوارات التي ترسم خطوط البلد وتاريخها، المتخاصمون في الجدال ليلاً، تراهم يسعفون بعضهم نهاراً، أثناء سقوط البراميل، لربما لو بقي الطيار ليلاً يرمي البراميل، لما سمحت للأهالي بالتفكير بما يختلفون عليه ليلاً.
اشتري من صاحب المحل، كل ما فيه من أنواع الشكولاتة، لا أأكل أكثر من التمتع بالألوان الصافية، على غلاف الشكولاتة، أشرب الجاك، واستمع، وأوعد المقاتلين بتصويرهم، وأخذ أرقامهم.
– طالعني ع التلفزيون يا إعلامي
– ثقيل أنت، بعدين تقع، وتكسر التلفزيون.
أخذ منهم عن طريق البلوتوث العديد من الأغاني الجديدة، والمتداولة، والتي غابت عن الشوارع قبيل خروج التنظيم، من الأحياء الشرقية لحلب.
وأغاني أخرى تمجد قادة الفصائل وتضحياتهم بوجه التنظيم، وتنوه على خيانة بعض الفصائل.
يسلم المؤذن علينا ويكمل سيره إلى المسجد ليرفع أذان الفجر.
تشرق الشمس، اذهب إلى الحديقة من بابها الغربي، أدور الحديقة، أتحاشى النظر لأحد المقاعد، التي ماتت عليها، أجمل أيام طفولتي، ومنها تفرقنا كأصدقاء.
انتظرها على كرسي، أغير الكرسي عدة مرات، أخرج من الحديقة مكابرةً، ليس من المستحسن أن تدخل وتراني انتظرها، أعود، أجلس، أنتظرها من باب المقولة: التضحية في الحب للشاب وليس للفتاة، وفقاً لمعطيات المجتمع.
تدخل الحديقة من بابها الغربي، ترتدي معطف طويل، فوق بيجامة النوم ذات اللون الريشي، والمعطف ذو لون ” بيج” وحجاب أسود من قطعة واحدة وشحاطة زهرية اللون، ليس لقاء عاطفي، زيها يلبسني دور عامل النظافة، الذي يرمي له، نساء الحارة، القمامة من الشرفة.
نسلم على بعض، أمد يدي، تتجاوب وتمد يدها، ترتعش يدي، سخونة تسري في كل جسدي، مع نوبات نعس، تأتي على شكل أمواج.
نجلس، تفتح العديد من الأحاديث المبعثرة، غير المرتبة عن مستقبلها، وعن فرحتها بقرار والدها بالسفر، وعن الجامعات في تركيا، ذات يوم أخبرتها أنني زرت تركيا، وعليه فيجب أن أعرف كل تركيا، وقوانينها وتراثها، وجامعتها، وكم تكلفة ركبة باص دائري الشمالي الخاص بتركيا!
لا استوعب نصف كلامها، بسبب موجات النعاس، أشرد بكلام الشباب المقاتلين أمام “سمان” الحارة، التي تقع خلف الحارة التي أسكن بها، أفكر، أنظر إلى يديها، واستعمالها لهن بحديثها، هل الشباب محقين بفجورهم ضد كل من ينتقد الجيش الحر أو العكس، هل كل من انتقد الفصائل يجب أن يكون داعشي، كم شاب خاف من تهمة أنه داعشي، وخاف من الاعتقال، وذهب إلى مناطق داعش خوفاً على نفسه من السجن، وذهب لسجن أكبر، كل كلمة ووجهة نظر يتم وضعها، تحت بند شبيح، أو داعشي، أو عميل.
أعود للشرود بحركات يدي عائشة، هل ستتركني أيضاً!؟
هي بالفعل ماتت بالبراميل الذي لم ينفجر خلف بناءهم، لما التفكير بوجودها أو غيابها؟!
– سأراك في تركيا
تخبرني وكأن تركيا مجمع بشري عند دوار بربانه بحلب!
سعدت بمعرفتك، أتمنى لك الخير، وربي يحميك من البراميل، وإن شاء الله ما تموت، وتحقق ما تريده.
لما الكلام السيء، موجات النعاس أو التفكير بما قاله الشباب تمنع مخي من سماعه، أفظع من ذلك، يدخل مخي ويترسخ ويبدأ مخي بالتفكير به، ربما قالت أشياء أخرى لطيفة، لكن المخ، الذي تأقلم على التنبؤات السيئة في كل شيء، تأقلم ألا يسمع إلا ما هو سيء.
سعدت بمعرفتك … يعني كل شيء انتهى، وأليس أنها ماتت بذاك البرميل الذي لم ينفجر
سعدت بمعرفتك.. يكررها مخي، أوصلها لقبل البوابة الغربية للحديقة، بعد أن تنظر إلي، وتمد يدها، ومن ثم تسحبها خجلاً، تقول بلهجة مطعمة بين الحلبية والشاوية: “يالله باي باي” ولا تنظر خلفها، أخر ما صورته عيني منها هو يداها، وأثار قلم أزرق على كفها.
كحي تم تدميره ولم يعد موجود على الخراطة، ابتعدت عائشة واختفت، رقمها السوري لم يعد متوفر، ولا متاح على الواتس اب، هل اجتازت الحدود، ودخلت تركيا، أم صاروخ حراري استهدف السيارة التي تقلهم على طريق الكاستلو.
هي بالأساس ماتت ببرميل متفجر، لم يقتنع مخي بهذه النظرية، الفقد أفظع من الموت.
إيميل رسمي يحذرني من عدم تكرار الخطأ، أثناء إرسال مقاطع الفيديو المصورة عن أثار القصف والضحايا، كل تركيزي، يكمن بلقطات تركز على أيدي الضحايا.
أبحث عن جثة عائشة، عن طريق البحث عن علامات قلم أزرق على كفها، جمع من السيارات محروقة وأعمدة اسمنتية قسمت الشارع إلى نصفين، سيارات الإسعاف، تنقل ما يتم جمعه من بقايا جثث، إعلاميين يصعدون فوق السيارات، ليأخذوا لقطات فيديو عامة لما تم تدميره، أخر يصور رجل يتحدث للكاميرا مهدد العالم كله بالانتقام، بينما جنوني وتكفيري المتواصل بعائشة، يجعلني ابحث بين أيادي الضحايا على بقايا قلم أزرق، ليقتنع مخي أنها ماتت، أرسلت رسالة للمدير أن يُرسلني لتصوير المعارك، ويترك مهمة تصوير وتوثيق المجازر لغيري، لا يوجد نساء في المعارك حتى تتشابه علي الأيدي، بين تلك الواضعة السبابة على الزناد، ولا كف عائشة المتسخ ببقايا قلم أزرق.
قررت الكتابة، ذهبت إلى أمام مسجد نور الشهداء بحي الشعار، اشتريت من مكتبة صاحبها يبتسم بوجه كل زبون من باب كسب الزبون!
من له خلق للابتسامة يا الله!
يذكرني محل يسمى هديل للتجميل بعائشة، أجد وجهها على الإعلانات، أين جهاز الحسبة لجبهة النصرة ليطلي الإعلانات هذه باللون الأسود.
كل فتاة في حي الجورة وحي الشعار، رغم قلتهن يذكرنني بعائشة.
اكتب على الشرفة، أمسح ما اكتبه، أطيل النظر برادار مطار حلب، أعود للكتابة وأمسح.
يالله… يا رباه، عندما كانت هنا منذ يومين، كنا نجلس جنب بعض على كرسي الحديقة، كنت أفكر بأحاديث الشباب وأحاديثهم، عندما ذهبت لم تبقى رسالة أرسلتها على الواتس اب، وإلا وقد قراءتها عدة مرات.
صعدت على سطوح البناء، من ثم عدت إلى الشرفة، فها هو السطح، بدء يذكرني بالرسائل التي كنت أرسلها لعائشة، والقفز ومد يدي بالسماء عله تصل الرسالة.