خليفة الخضر
عدت إلى الغرفة، اضغط برأسي على الفراش، عله يحفر حفرة، كحفرة النعامة، لاستطيع النوم. طردت الفكرة، خشيت أن يبقى رأسي في الحفرة، وبقايا جسدي تتمايل إثر سقوط جسمي ثقيل، أشرب بقايا مشروب جاك، لا ماء في المنزل، عندما شرقت الشمس، روحي كانت محبوسة في منفردة داخل نفق ترابي محفور.
خرجت من المكتب ولم أعد إليه…
تركت المكتب، بالرغم من أنه لا يوجد به إلا طراحة، وجهاز انترنت فضائي، غطاء للنوم، وبقايا علب جاك وعدة كراسي، إلا أنه مليء بالفوضى، والجدالات، والذكريات، وقصص لم تكتمل، وأفكار متطرفة وأخرى لا عنفيه، وأحلام متناقضة، تحول المكتب لمكان يعشعش فيه جان بكثرة، أتحاشى دخوله، فهنا ظننت أحد الأصدقاء، يمزح عندما نام في المكتب، وأخبرني أنه سيذهب إلى مدينة منبج، ليبايع تنظيم الدولة، وهو ينسق مع أحد الدواعش، والأن يُقال إنه ينام بقرية، بالقرب من مطار كويرس.
وأخر يريد الذهاب للعمل في لبنان، لأنه لا يستطيع تعلم اللغة التركية، في تركيا، كما الكثير، سيدخل إلى لبنان، عن طريق معبر تلكلخ، وسيدفع لسائق ٤٠٠ دولار لإتمام عملية التهريب، اليوم قيل لي أنه مفروز يقاتل مع الجيش النظامي في محيط قلعة حلب.
في زوايا المكتب، سلم موسيقي، كتبنا عليه أناشيد جهادية، وأخرى كلاسيكية، لنور الهدى، فيروز، وأبو هاجر الحضرمي.
تعذرت النوم بالمكتب، لا أقول لأحد السبب، كل يوم أنام في منزل، أو مقر عسكري، أو نقطة رباط، أتحجج أن المكتب في الطابق الرابع، وفيه خطورة، لذلك يجب الخروج منه، مثلما قلت، البراميل تغطي على مشاكلنا، نتستر بها، عما لا نستطيع قوله من مشاكلنا.
لا كوابيس تقتحم نومي، أثناء النوم في نقاط الرباط، أو في منازل حي كرم الطراب، فأي منام أسوء من اقتحام عناصر حزب الله، وأسرى والتمثيل بجثتي، أي منام أسوء من النوم في منزل، حتى إنارة الشمع تؤذي العين، وتسبب لها العمى.
بقيت أنام في منزل أحد أصدقائي، المتزوج من ابنه عمه، والتي كانت زميلتي في المدرسة، ووحشة سنوات المعارك جعلتها تتعلق بكل ما هو قادم من الماضي، تحضر لي الفطور، لا تجعلني حتى أحمل سفرة الطعام خجلاً بعد الانتهاء من الأكل، أٌذاكر مع أطفالها الأحرف العربية، أحدثهم عن شوارع عريضة تسير فيها السيارات ليلاً وتنير إنارتها، لا تخاف من استهداف الطيارة، وقريباً سنعيش حياة أفضل.
أحمل على الجهاز المحمول عدة مقاطع من أفلام الكرتون، أشحن الجهاز، أخفض إنارته كي لا يسرف شحن، وينتهي شحنه بسرعة، أذهب إلى منزل صديقي، أشاهد مع أطفاله، حلقات سبانج بوب، تعودت على الحياة كأعمى، لا أدري كيف يعيش صديقي وزوجته وأطفاله، على إنارة خافتة، وزيت كاز، وشموع اصطناعية، سرعان من تنطفئ.
تركت العمل الإعلامي والتصوير، إذ لا رغبة لدي بالتصوير، وتكرار تصوير ذات المشاهد، قررت تصوير فيلم عن غياب التعليم، وأثاره على الأطفال، اسميته تجاوزاُ “أين مدرستي”، تعقبت دمار المدارس، وتلك التي تحولت لمقرات عسكرية، وتلك التي تحولت لسجون، وأخرى مراكز توزيع إغاثة، وأخرى شعبة أو شعبتين منها، يتم تدريس الطلاب من منهاج مبعثر.
مثلما أحاول إقناع نفسي أن عائشة ماتت، بذاك البرميل، الذي لم ينفجر خلف منزلهم، أقنع نفسي أن المكتب سقط برميل عليه ودمره كلياً، ولا أستطيع أذهب إليه.
لكن بالفعل بعد عدة أشهر، سقط برميل على البناء وقسمه نصفين، هوت شرفة المكتب، على الارض كما كنت أهوى في أخر ليلة “نمت” فيه.
لم يبقى إلا حائط الغرفة، وبعض الملاحظات التي كنت اكتبها بالقلم الأزرق.
مع مرور الأيام، بعثرتنا البراميل بالخارطة السورية، وخارج البلد، كما تبعثرت حجارة المكتب، يحاول العالم اسقاط أحلامنا، كسقوط شرفة المكتب.
عل كلماتنا الناتجة عن غضب، وعن أمل، وعن أحلامنا، ووجهات نظرنا الدينية، والسياسية، تذرفها الرياح، لتترسخ بذهن أبناء من هَجرونا، ويكملون ما قمنا به، ويحميهم الله مما حدث معنا، عل عبارة عمار الخنفوري، طالب كلية الحقوق، والذي ترك جامعته والتحق بالعمل العسكري، واستشهد في عملية اقتحام الجيش النظامي لأحياء المدينة الشرقية، تطوف أرجاء المدينة، وفي أذهان من بقي فيه جزء من الإنسانية، عندما تحدثنا عن انضمام الشباب لتنظيم داعش، وعدم سماع أخبار انشقاق الشبان عن الجيش النظامي، كما في السابق، إذ قال وقتها: العيش بحرية له سلبياته، ولكن نتائجه الإيجابية كبيرة، أغلبنا لم يستطيع العيش، دونما سلطة تترأسه كما تربى، لذلك، هناك من بقي مع الأسد من باب لا أحد يستطيع اسقاطه، وأخرين وجدوا بسلطة داعش ملجئ أخر من الفوضى التي نعيشها، بعد أن شاهدوا إجرام الأسد وعدم الاقتناع بروايته القديمة عن المؤامرة التي نعيشها، وخاصة أن الدواعش لهم روايتهم الدينية التي تقنع غير المطلع على الدين بشكل كامل، علنا نتعلم أن السلطة الشمولية، وإن كانت منظمة، ولكنها لا تبني وطن كباقي الدول، لعلنا نجد في نهاية هذه الفوضى التي نعيشها، دولة لنا كلنا، ولا سلطة شمولية فوقنا، لا ترينا إلا ما ترى.