جسر – صحافة
عبد الناصر العايد
سجن غويران الذي برز اسمه في اليومين الفائتين، هو دمّلة من عشرات الدمامل المحتقنة التي تنتشر على جغرافيا شمال شرق سوريا، حيث تتكثف أزمات الشرق الأوسط المستعصيّة على شكل سجون ومعتقلات تضج بعشرات الألوف من المتطرفين الدينيين، وقد حاول المهاجمون احداث انفجارات تسلسلية في عنقود الدمامل تلك انطلاقاً من سجن غويران.
بُني سجن غويران، أو سجن الحسكة المركزي، في مرحلة الوحدة السورية المصرية، ليستوعب ألف وخمسمائة سجين، وزود السجن على نحو استثنائي بمهبط للحوامات. وفي مرحلة سيطرة حزب البعث ضم السجن مئات من الناشطين الأكراد المناهضين للسلطة ذات الطابع العربي الفاقع، وشهد استعصاءات ومحاولات هرب، أشهرها احتراق السجن بمن فيه من النشطاء الأكراد سنة ١٩٩٢، وضم السجن لاحقاً مئات من الأكراد الذين اعتقلوا على خلفية انتفاضة سنة ٢٠٠٤، وبقي فيه عدد منهم حتى سنة ٢٠١١، موعد تفجر الثورة السورية.
هاجم تنظيم داعش السجن سنة ٢٠١٥، وانتزعه من قبضة قوات النظام، ثم هاجمته الوحدات الكردية سنة ٢٠١٦ واستولت عليه، وبدأت بزج عناصر داعش ذاتهم فيه حتى فاض العدد عن قدرته الاستيعابية، وعندما بلغ عدد السجناء أكثر من ألفي معتقل، استولت قسد على مدرسة ثانوية للتعليم المهني على مقربة من السجن، تدعى مدرسة الصناعة، وحولتها إلى معتقل إضافي ضم نحو ثلاثة آلاف معتقل، معظمهم ممن استسلموا في الباغوز.
وقد شهد سجن مدرسة التدريب المهني غير المعدة لتكون سجناً، نحو عشرين محاولة لهروب أو تمرد عناصر داعش، التي فشلت على الدوام بفضل تدخل القاعدة الأميركية القريبة، حيث تتمركز حوامات تابعة لها في ملعب الحسكة البلدي.
السجن الخطير هذا ليس الوحيد في شمال شرق سوريا، هناك ما لا يقل عن عشرين سجناً آخر، مثل سجن عايد في الطبقة الذي يضم نحو ألف معتقل، وسجن الاحداث في الرقة ويضم نحو ألف وخمسمائة، وسجن علايا في القامشلي الذي يضم نحو ألف وخمسمائة، والسجن الأسود أو سجن ديريك، الذي يضم أخطر المطلوبين، ويقبع فيه نحو الفي سجين، وسجن الشدادي الذي يضم نحو ستمائة سجين، وعدد من السجون المحلية الأخرى، التي لا تكاد تخلو منها ناحية أو منطقة.
وعلى بعد نحو ثلاثين كيلو مترا من سجن غويران يقع مخيم الهول الذي يضم نحو ستين الفاً من عائلات التنظيم، والذي اصبح مدينة صغيرة، تضم متطرفين ومتطرفات من كافة انحاء العالم، ويتكدس فيه الدعاة والمخططون والمنفذون من مختلف المستويات، ويحتمل أن المكان هو بمثابة عاصمة التنظيم غير المعلنة حتى الآن، وكإجراء احترازي، ونظراً لخطورة المخيم، فقد طوقته قوات سوريا الديمقراطية بسور ترابي لا غير، في الوقت الذي أنجزت فيه سلسلة من الانفاق البيتونية شديدة التحصين بطول مئات الكيلو مترات على امتداد الحدود التركية السورية!
وفق مصادر محلية موثوقة، فإن معظم من هاجموا السجن، وعددهم نحو خمسمائة مقاتل، جاؤوا من مسافات بعيدة، بعضهم من العراق، وأن العملية جرى التخطيط والاعداد لها منذ زمن بعيد، كما تشير إلى ذلك اعترافات لعناصر من داعش ألقى القبض عليهم منذ مدة وعرضتها معرفات قسد الإعلامية. كما تشير إلى ذلك كميات ونوعية الأسلحة وطريقة تمريرها إلى محيط السجن، حيث تسلمت أولى دفعات السجناء الهاربين سيارة محملة بالسلاح وبدأت القتال فوراً، مما يؤكد وجود تنسيق عال بين المهاجمين والمعتقلين، وواسطة اتصال، إضافة إلى اختراقات أمنية جسيمة في صفوف قسد، وفي المنطقة المجاورة لها.
التحليل الأولي لمعركة سجن غويران هذه، يقول إن المهاجمين خططوا لإخراج العناصر الخمسة آلاف، وجلّهم مقاتلون محترفون، وزجّهم في معركة باتجاه مخيم الهول، حيث ينضم إليهم مزيد من المقاتلين، ربما يبلغ عددهم خمسة آلاف، ومنها ينحدرون إلى مناطق ريف دير الزور الشرقي وبادية الروضة، وفي طريقهم يستولون على المنابع النفطية ذات القيمة الاستراتيجية.
صار السؤال مملاً، ومع ذلك يطرح نفسه: وماذا بعد؟ كيف السبيل إلى حل هذه القضية التي يبدو أنها ستكرر إلى مالا نهاية؟
ومع أنه تمّت الإجابة على هذه “الاحجية” مراراً، وصمّ صناع السياسات آذانهم مراراً أيضاً، إلا أنه لا بأس من القول مرة أخرى بأن هذه الدمامل لا يمكن معالجتها سوى بالعدو الحيوي، أي من داخل البيئات التي ينمو التطرف على ضفاف مظلوميتها وقهرها وتهميشها، ومن دون أن يكون للسكان المحليين الحق في قيادة أنفسهم، وصنع عالمهم، فإن سيناريو سجن غويران، الذي هو مشهد معاد، سيتكرر بصور مختلفة إلى ما لا يحصى من المرات.
ومع أنه تمّت الإجابة على هذه “الاحجية” مراراً، وصمّ صناع السياسات آذانهم مراراً أيضاً، إلا أنه لا بأس من القول مرة أخرى بأن هذه الدمامل لا يمكن معالجتها سوى بالعدو الحيوي، أي من داخل البيئات التي ينمو التطرف على ضفاف مظلوميتها وقهرها وتهميشها، ومن دون أن يكون للسكان المحليين الحق في قيادة أنفسهم، وصنع عالمهم، فإن سيناريو سجن غويران، الذي هو مشهد معاد، سيتكرر بصور مختلفة إلى ما لا يحصى من المرات.
المصدر: موقع المدن