جسر: رأي:
تصاعدت في الفترة الأخيرة وتيرة البيانات والمشاريع التي ترسم مستقبل سورية على أمل أن زوال النظام السوري قريب لامحالة سواء بالجرائم التي ارتكبها، ودمر بلاده وشعبه، أم بالصراعات الدولية التي تدور حول سورية ومن أبرز تلك المشاريع “إعلان الوطنية السورية” الذي يعد حتى الساعة من أكثر المشاريع توازناً إذ أحاط بالواقع السوري إحاطة تامة ولم يغفل النسيج الوطني السوري، وانسجام ألوانه بفعل التاريخ والجغرافيا.. وثمة مشاريع أخرى تأخذ بعين الاعتبار بعض التمايز الكائن داخل ذلك النسيج، وعانى أصحابه مظالم النظام الاستبدادي، وقد رسمت تلك الجماعات لنفسها حلولاً تراها مناسبة لترفع عن كاهلها ذلك الحيف، وتلك المظلومية، ولكنها مالت في الحقيقة إلى تسوية انحناء العصا بثنيها أكثر مما تطلبه التسوية، بينما طالب آخرون بكسر العصا ذاتها وجرت ردود متعددة على تلك المشاريع والبيانات من باحثين في الشأن العام، ومن سياسيين أفراداً وأحزاباً وتيارات، والتقت تلك الردود عند اقتراحات بحلول موضوعية تتوافق ووحدة الجغرافية السورية، وتاريخ الشعب، والعمل على إعادة تسوية العصا على استقامة تحقق للجميع الحرية والمواطنة الكاملة إذ لا تهضم حقوق قومية ما أو دينية أو اجتماعية والعمل على إعادة توزيع الثروة السورية على نحو عادل وبما يحقق التنمية المنشودة للشعب السوري.. ومن أبرز الحلول التي تقاطع عندها معظم من كتب في هذا المجال هو: اللجوء إلى نظام ديمقراطي لامركزي ينزع الحيف عن أي كان ومهما كانت المظلمة التي يعانيها وجرى استبعاد أي مشروع يمكن أن يمهد للتقسيم..
لا شك في أن ما جرى يشير إلى وعي الشعب السوري وقدرته على استعادة روح الثورة السورية وما رفعته من شعارات وما كشفت عنه من مظالم.. كما أن النظام الذي اقترح يفترض دولة علمانية تحقق المواطنة الكاملة وترعى حقوق مواطنيها وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى أن الدولة بطبيعتها علمانية..! أي إن الدولة في أساس تعريفها: هي القاسم المشترك بين عموم مكونات الشعب الذي تحكمه، وإذا كانت الدولة القديمة التي شهدها التاريخ من خلال أنظمة العبودية أو الإقطاعية أو غيرهما جاءت لتحقيق التوازن بين المكونات التي تسيطر عليها عبر أنظمة قد تحقق الأمن لكنها لا تحقق العدالة، فالتوازن لديها نسبي يأخذ بمبدأ القوى الموجودة وأهمية دورها.. فالوزراء وقواد الجيوش يأتي بعدهم كبار الملاك والتجار ثم الصنَّاع (معلمو الحرف) ثم العامة.. أما الدولة في زمننا الحالي فتجعل المواطنين فئة واحدة، يرعاهم قانون واحد يطبق على الجميع دونما استثناء لا تسري العدالة فيه بين الأقوام والطوائف فحسب بل بين الأفراد أيضاً.
وتقدّم دائرة المعارف البريطانية تعريفاً للعلمانيّة كما يلي: هي “حركة اجتماعيّة تتّجه نحو الاهتمام بالشّؤون الدُّنيويّة” وتُعدها جزءًا من النّزعة الإنسانيّة الّتي سادت منذ عصر النهضة؛ ودعت لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به”، وتضيف دائرة المعارف: “وقد كانت الإنجازات الثّقافيّة البشريّة المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقاتها”.
أما “العَلْمانية” كمصطلح فقد جاءت من العَالَم لا من العِلم، وهذا يشير إلى مفهوم سياسي ويعني شكل إدارة الدولة، واهتمامها بشؤون الآخر والعالم، يعني هي ليست إيديولوجيا كما يصورها بعضهم، إنها مفهوم، ومبدأ نظام حكم في الدولة الحديثة التي تقوم على المساواة بين رعايا تلك الدولة، على أساس المواطنة والأخوة الإنسانية، وتطوير المجتمع، وتنميته، لا على أساس الإيديولوجيا التي تقيد الإيديولوجيات الأخرى المخالفة، وهي بالتالي إطار سياسي يفسح في المجال لتحقيق العدالة النسبية على الأرض.. ولأنَّ منشأ العلمانية غربي وقفت منها بعض التيارات السياسية الإسلامية في بلادنا موقف المتوجس، واتهمت القائلين بها بالكفر والإلحاد ومعاداة الأديان..! والعلمانية تفصل بين الدين والدولة، ولكنها لا تنفي الدين ولا رجاله.. لكن لا يحق لرجل الدين أن يكون فوق القانون، أي ألا يتدخل في شؤون الوزير مثلاً أو حتى رئيس الدولة.. وتسمح أن يكون لرجل الدين سلطة روحية على أفراد المجتمع من أبناء دينه أو طائفته.. ويمكن لقادة الدولة استشارته في أمر ما فهذا شيء آخر.. وهكذا كانت الدولة الإسلامية في تاريخها كله..! فالقرار أولاً وأخيراً للخليفة لا للقاضي أو المفتي، وخلافات المسلمين الأولى (في سقيفة بني ساعدة) لم تكن حول الدين ولكن حول الأحقية بالحكم هل هو لقرابة الدم أو لقرابة الروح وقد حسمها ابن الخطاب بإرادة السياسي وحزمه..!
بعضهم يرى أن العلمانية كفر وهذه معلومة خاطئة تحاول داعش وأمثالها دسها بين جمهور المسلمين.. بينما حقيقة العلمانية عكس ذلك تماماً، فهي ضد الإيديولوجيا المراد تعميمها على البشر، وبوضوح أكثر إنها ضد فهم معين للإسلام، ما يعني أنها ضد “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” وضد تنظيم القاعدة الذي تأسس بمساع أمريكية أواخر سبعينيات القرن الماضي أي بعد دخول الاتحاد السوفياتي إلى أفغانستان، وبمساهمة سعودية وإيرانية، (قبل خلافهما)، والغاية محاربة الشيوعية، ولا تقترب العلمانية في جميع الدول الأوربية من الدين الإسلامي، ولعل منابره هناك أكثر مما هي عليه في البلاد الإسلامية، والدليل على ذلك انتشار المساجد في تلك البلدان العلمانية وأعدادها تتجاوز ما هو موجود في البلدان الإسلامية، إن لم تكن تضاهيها، ولدى المسلمين هناك من الجمعيات المدنية والدينية الكثير، ويعيش الكثير من المسلمين الملاحقين من حكومات بلدانهم.. ولعلَّ أبرز مثال عدم تسليم كندا مواطناً سعودياً ملاحقاً من حكام بلده..
أخيراً أقول إن العلمانية هي الإطار الوحيد الذي يحقق لسورية والسوريين شعارات ثورتهم وينهي معاناتهم ويتجاوز مظلومياتهم..!