جسر:مقالات:
لم تنته بعد الانتخابات الأميركية، وإن كانت نتائجها بدأت تتضح قليلاً، لكن هل كان ضرورياً أن تعيش البشرية مرحلة ترامب؟ وأن يصل إلى موقع الرئاسة في الدولة الأقوى اليوم شخص بمثل هذه الفجاجة والصفاقة، وأن يكون خروجه من البيت الأبيض – إن خرج – بهذا الفارق البسيط من أصوات الناخبين؟
في مقالة له بصحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) وصف الصحفي الأميركي “توماس فريدمان” السنوات الأربع لرئاسة “دونالد ترامب”، بأنها الأكثر إثارة للانقسام، والأكثر خداعاً في التاريخ الأميركي؛ لأنها هاجمت الركيزتين التوءمين للديمقراطية الأميركية؛ أي الحقيقة والثقة.
ليس صحيحا أن سنوات ترامب الأربع هي الأكثر خداعاً في التاريخ الأميركي، لا بل يمكن الذهاب إلى عكس ما يقوله “فريدمان” تماماً، والقول إن هذه السنوات الأربع، ربما هي الأكثر صدقاً في التاريخ الأميركي، والأكثر اقتراباً من الحقيقة، وهي السنوات التي يجب أن يقف أمامها الساسة، والمفكرون، والمثقفون في أميركا، وفي العالم، طويلاً، وبجرأة بالغة، فقد كشفت سنوات ترامب الأربع، ومجريات الانتخابات الحالية، أن الأزمة التي تعصف بالمجتمع الأميركي أعمق بكثير من نتائج انتخابات، ومن وصول هذا الشخص أو ذاك إلى موقع الرئاسة في أميركا.
لم يصل ترامب إلى موقع الرئاسة الأميركي بمصادفة، ولم يكن وصوله عارضاً، أو نتيجة لأخطاء خصومه السياسيين فقط، بل كان أساساً نتيجة لازدياد قوة تيار أصولي يجتاح العالم كله، تيار يعيد البشرية كلها إلى منهجيات التشدد والتعصب القومي، والعرقي، والديني… وحتى المادي، ويمكن رؤية ذلك بكل وضوح في مناطق كثيرة من العالم، من صعود صادم لليمين الأوروبي المتطرف، إلى تنامي التيارات القومية المتشددة في تركيا وروسيا وغيرها، وصولاً إلى التيارات الإسلامية الأصولية والسلفية الجهادية في الشرق.
منذ مطلع الألفية الثالثة، بدأت تتوضح معالم تحولات اجتماعية، وإيديولوجية كامنة في مجتمعات عديدة، عبر منظومة فكرية، ثقافية، وسياسية أصولية دُفعت إلى الواجهة، فتمددت، وطغت، واعتمدت “الشعبوية” أداة أساسية للتحشيد حولها، مطلقة خطاباً لا علاقة له بالواقع، ويهدف لنيل مكاسب سهلة وسريعة، خطاب وضع العالم في دينامية وحراك غير مستقر، وفي حالة من الارتباك والقلق، وكأن زلزالا راح يضرب هذا الكوكب، فلا يمكن معرفة قوته، أو أين سينفجر ومتى؟
لما كانت الأصولية تعني بصيغة ما: ارتداد جماعات بشرية لبناء منظومتها الفكرية، مستندة إلى منهجيات، وموروثات، وأفكار من مقدسات الماضي، وتعني قراءة حاضرها وأزماتها الراهنة خارج سياقها التاريخي، وخارج أسبابها الحقيقية والموضوعية، وبالتالي استلهام الحلول لهذه الأزمات من مقدسات، أو من منهجيات تخطتها البشرية بعد أن دفعت ثمناً باهظا لها، لهذا، فإن خطر هذا الارتداد يكون بالغاً في المجتمعات التي تحوز على مصادر قوة بالغة، سواء أكانت هذه القوة اقتصادية، أو عسكرية، أو إعلامية.
أخطر هذه الردات الأصولية هي تلك التي قادها ترامب، والتي تمظهرت بالعودة إلى منهجية إيديولوجية وسياسية قديمة، كسياسة الانعزال، أو العودة إلى أجواء الحرب الباردة، وانتعاش المضاربات الاقتصادية، والسياسات الإعلامية التحريضية، وخلق أعداء خارجيين وداخليين من أجل استنهاض التعصب القومي، وإطلاق شعارات تمجّد هذه العصبية.
لم تنعكس الردة الأصولية التي جسدها ترامب على أميركا وحدها، فقد عزز وصول ترامب إلى السلطة من قوة الارتداد الخطير الذي تعيشه أوروبا، عبر يمينها المتطرف المتصاعد بقوة، وعزز من قبول الأوروبيين لدعوات قومية متعصبة، كانوا قد أداروا ظهرهم لها، يُطلقها هذا اليمين، وتُعيد لذاكرة البشرية مرحلة ما بعد الحرب العالمية، والتي قادت البشرية إلى حربها العالمية الثانية.
كما أن هناك ارتداد الجماعات الإسلامية السياسية إلى فترات الخلافة الإسلامية، أو إلى تعليمات وشرائع الأئمة، والفقهاء السلفيين السابقين.
إذا كان اجتياح الشعبوية للثقافة والفن والفكر في العقود السابقة، قد تم بتعمد، ولم تتم مقاومتها كما ينبغي، بسبب عدم التنبه جيداً لمدى خطرها الحقيقي، فإنه من الطبيعي أن تتنامى وتتمكن من أن تجتاح السياسة أيضاً، وأن تضع البشرية في خطر لا يتهدد فقط ثقافتها وفكرها، بل يتهدد وجودها المادي، وما تشهده البشرية اليوم من نمو مخيف للعصبيات، والتصنيفات القومية، والعنصرية، والدينية، هو نتيجة طبيعية لطغيان هذه الشعبوية.
لا يعني خروج ترامب من البيت الأبيض أن أميركا ستطوي صفحته، ولا يعني هذا أبدا أنها بدأت تتعافى من الأزمة الاجتماعية والسياسية التي تعصف بها، فلم يكن وصول ترامب إلا انعكاساً لهذا الأزمة العميقة، وبالتالي فإن إزالة عارض من أعراضها لن يلغيها، ولعل وصول ترامب كان لحظة يجب أن تعيشها البشرية كلها، وفي مقدمتها أميركا، للتنبه للخطر الداهم الذي يتجسّد في مناخ سياسي عالمي، يقود هذه البشرية إلى الكارثة.
من روسيا إلى تركيا إلى المجر والبرازيل وإيران وأوروبا … إلخ. والتي ينتهج قادة فيها نهجا يشبه إلى حد كبير نهج ترامب، ويذهبون إلى تقويض الديمقراطية بوضوح، عبر شعبوية عمياء متعصبة، يُمكن استقراء مرحلة قادمة، قاتمة، تضع البشرية أمام مفترق، قد يوصلها إلى حافة حرب مدمرة.
إنّها الشعبوية، الانعكاس الأكيد للخلل البنيوي، والعميق في النظام العالمي الاقتصادي، وسياسات العولمة، ودفع الشعوب إلى هذا الشعور الطاغي بعدم الأمان.