جسر:صحافة:
في آخر مقال نشرته الشرق الأوسط لروبرت فورد (سفير أميركا في دمشق وقت انطلاق الثورة السورية)، يعرّج على الاستعصاء الذي تعاني منه موسكو في ترويض الأسد، ويَعزي ذلك – كما درج وآخرون على سوق هكذا حجج- إلى عدم تيسّر بديل له، وإلى تصادم مقاربات موسكو مع توجّه واشنطن، وإلى رضى الأولى وصبرها على الواقع الجامد كما هو. في كل ذلك السرد التيئيسي والحالة الإحباطية والعمليات التشويهية، التي درج عليها فورد في مقاربته القضية السورية متعمداً ومساهماً بهذا الاستعصاء المرير- حيث كان فورد ذاته أول من أطلق على ما يحدث في سوريا مصطلح “حرب أهلية”، وساهم بهندسة موقف إدارة أوباما المسؤولة بالتكافل والتآمر على الشعب السوري- يغفل فورد الاستعصاء الذي يجد السيد بوتين نفسه به، والذي يدفعه لسحق كل صوت معارض لتوجهاته؛ حيث يأتي ذلك نتيجة طبيعة للبنية السياسية التي انطلق أو أُطلق منها بوتين في كل هذه السنوات السابقة في السلطة.
ومن هنا، لن يكون غريباً اعتبار تدخل أو إدخال بوتين في القضية السورية الوصفة الأنجع لتعميق المأساة السورية واستطالتها. فمن أي خلفية، وبأي مؤهلات انطلق بوتين في امتطاء ربع مساحة العالم (روسيا) كي يمد أذرع سلطته إلى حيث يريد أعداء روسيا، وبالتحديد إلى سوريا، لإغراقه هناك؟!
عندما وصل بوتين الى السلطة كان مشبعاً بفكرة استعادة العظمة التي تهاوت على غير المتوقع لإمبراطورية سوفيتية، لم يخطر على بال أحد أن مُلكها يمكن أن يزول؛ ولكن النخر كان قد وصل الى أخشابها الداخلية، بسبب انصراف أرباب السفينة إلى مقاتلة الإمبريالية بسيوف من خشب؛ في حين كان الشعب السوفيتي يخسر قوته اليومي تباعاً، لأن “الأخ الأكبر” وحاشيته كانوا يوزعون هبات بلادهم على الرفاق الأمميين المنتشرين في أصقاع الأرض كدرع ضد الرأسمالية؛ التي ساورتهم أوهام زوالها بحسب حتمية التاريخ على يد الشيوعيين الحمر. ولكن خداع الذات لم يؤتِ أكله ضد الأعداء بل ارتد على نحر البلاد والعباد؛ حيث تداعت بلاد السوفييت وتوابعها مثل أحجار الدومينو؛ فما كان من سليل جهاز ال”كي جي بي”، الذي وصل إلى رأس الهرم في الكرملين في غفلة من التاريخ، في عهد الرئيس بوريس يلتسين، الذي قضى الهزيع الأخير من حياته مخموراً، وأودع أمانة قيادة البلاد بيد الشاب الصاعد بوتين؛ إلا أن وجد لزاماً عليه تغيير تقنيات العمل للتعامل مع الشعب في الداخل، ومع الآخرين في الخارج دون المساس بجوهر فكرة المحافظة على قهر العباد.
في الواقع إن بوتين، الذي لا تنقصه الحصافة قد استفاد حقاً من خدمته كضابط استخبارات سوفيتي في مدينة “لايبزغ” الألمانية لمدة خمسة عشر عاماً، حيث اختبر وفهم بعمق العقلية الجمعية الغربية وطريقة التفكير في البلاد الديمقراطية الحقيقية؛ وبالتالي عرف الثغرات التي يمكنه استغلالها للنفاذ والتغلغل لتسويق أفكاره التوسعية. وبناء على هذا الفهم استطاع بطريقة انتهازية مد الجسور مع اليمين الشعوبي الأوروبي أملاً بخلق شروخ مجتمعية في أوروبا؛ واستثمر رهاب الأجانب عند هذا اليمين الأوروبي، من خلال دفعات اللاجئين السوريين التي أجبرتها طائراته أن تهيم على وجهها طالبة الأمان في أوروبا وغيرها. ولا يخفى على أحد أن غاية بوتين هي تفتيت الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كي يستفرد بالدول الأوروبية الشرقية التي خرجت عن الطاعة السوفيتية؛ كما استغل فترة الانكفاء الأميركي المتَعَمَد ليتمدد في كل من أوكرانيا والقرم وسوريا؛ واستغل حالة الغضب التركي من برودة حلف الناتو تجاه تركيا أثناء حادثة إسقاط الطائرة الروسية ليقنع أردوغان بأن الصداقة مع روسيا هي أكثر مصداقية وديمومة من مثيلتها مع أميركا، مستغلاً اكتشاف أردوغان أن يداً أمريكية غير نظيفة متورطة بحياكة الانقلاب ضده عام 2015.
هذا، وابتدع بوتين أيضاً تقنية مد الجسور مع الأطراف الدولية المتناقضة: فهو يبدي الصداقة مع إيران في سوريا، ولكنه في الوقت ذاته صديق حميم لإسرائيل، رغم تناقضها الظاهر مع ملالي طهران. وكذلك استغل حالة التوتر المتفاقمة بين الصين وأميركا ليدعم أوراقه التوسعية؛ رغم أنه لن يستطيع تجاهل حقيقة النوايا التوسعية الصينية على حدودها الشمالية مع روسيا؛ حيث إن العيون الصينية ترنو إلى ملء السهوب الروسية الشرقية الفارغة بالفائض السكاني الصيني.
ولكن هل يعتقد بوتين أن الأميركان غافلون عما يفعله، أو عما يخطط له؟ ليست أميركا العميقة غافلة عن عبثه بالانتخابات الأميركية على مختلف مستوياتها، ولا عن لعبه في فضاءات التدخل الأميركي التقليدية، ولا عن زواجه المصلحي مع تركيا، ولا عن زواج المتعة مع إيران. وهكذا تلتقط آلة السلطة العميقة الأميركية نزعة الغرور لديه، وتراقبه يبتلع طُعم الانتصار الواهي والوهمي في البلدان التي غزاها؛ تاركة له الحبل على الغارب، كي يغرق في المخاضات التي وقع فيها كمصيدة الدببة، ومنها الحالة السورية الراهنة.
بناءً على كل ذلك، أتت عبارة فورد المفتاحية حول ما سمّاه “التصادم الروسي- الأميركي” في مقارباتهما للقضية السورية. وهو الأمر الذي لا ينفك المسؤولون الروس التحدث عنه. الثغرة الأساسية التي لم يلتقطها هؤلاء- وخاصة الروس- هي أن الأمريكيين وضعوا لغماً بيد بوتين يتمثل بالتمسك الفعلي بأنظمة مجرمة – وعلى رأسها نظام دمشق- الذي لا يستطيع الاستمرار بالتشبث به، ولا هو قادر على رميه؛ فيثور في وجهه. والأميركيون من جانبهم يستمرؤون حاله هذا، ويستمرون بتسجيل ارتكاباته، وبينها استخدامه الفيتوهات لحماية المنظومة الأسدية وإجرامها. وزيادة على ذلك يتم تحريك الداخل الروسي، كي يزداد توتر بوتين، ويسمم أعداءه، ويستمر بدعم دكتاتوريين كرجل بيلاروسيا. وكل ذلك يفاقم سجله المأزوم سلفاً.
رغم كل ما ورد أعلاه؛ وفي القضية المفصلية في كل تلك الصراعات تحديداً “سوريا”، يبقى أحد سبل نجاته الابتعاد عن منظومة استبدادية تعامله كأداة أنقذتها، ولكنها لا تدين له بالولاء، بل لمن- باعتقادها- سخّره لتلك المهمة القذرة. ورسالة المخابرات السورية على لسان خالد العبود الدليل الأكبر على ذلك. على السيد بوتين أن يتيقن أن كلّ ما وهبته له هذا العصابة ليس إلا “عطاء من لا يملك، لمن لا يستحق”؛ فهذا ملك سوري شرعي سيعود للسوريين أمام أعين بوتين طال الزمان أم قصر. ربما يكون ذلك بداية خروجه من الورطة.