جسر:مقالات:
ربما كانت هزيمة العرب في حزيران 1967 أهم مفاصل تاريخهم المعاصر. فقد أطلقت تفاعلات كبرى ما تزال تؤثر على واقعهم حتى اليوم. منها دخول تيار اليسار العربي، الذي كان صاعداً حتى عشية الحرب حين تلقى صفعة مدوية، في حالة من تبكيت الذات والمراجعات التي يعبر عنها عنوان كتاب مؤسَّس شهير للمثقف التقدمي السوري ياسين الحافظ «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة». أما الأنظمة القومية الاشتراكية في المشرق العربي فبدأت لحظة مواتها مع «النكسة»، وهو الاسم الملطَّف الذي اختارته لما حدث، ثم وفاة جمال عبد الناصر الفعلية بعد ذلك بثلاث سنوات، وتنصل خليفته، أنور السادات، من إرثه على مراحل، وصولاً إلى سياسة الانفتاح وتوقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، ثم دخول مصر عهد الانحطاط مع حسني مبارك وما بعده. فيما تنافس ثلاثة دكتاتوريون موضعيون، كل بطريقته، على مقعد «قائد الأمة العربية» الشاغر. ونعني حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا.
من جهته كان التيار الديني يمر بأسوأ حالاته قبيل الهزيمة. كانت هزيمته الفعلية قبلها، في الحقيقة، حين صار يُنظر إليه على أنه جزء من الماضي الذي ستطرده الجماهير تلقائياً في مسيرتها الظافرة نحو التقدم والاستقلال الفعلي وتحرير الأرض وبناء المستقبل، كما بدت الأمور خلال عقد من الأوهام الذهبية افتتحه فشل العدوان الثلاثي عام 1956. فيما كان التيار المحافظ، وهو الحليف الأقرب للتوجهين الديني والإسلامي، يعاني عزلته وشيخوخة أحزابه ونخبه في المشرق، وضعف دوله في الخليج، ووسْم كل ذلك بصفة «الرجعية» التي كانت أشد انتقادات ذلك الزمن قسوة، ولم تأتِ من فراغ.
قبل نحو عام على الهزيمة حدثت واقعة لم تكتسب وقتها ما ستحمله بعد ذلك من تأثير، هي إعدام سيد قطب على يد السلطة الناصرية. حين شُنِق لم يكن هذا المثقف الإخواني قد كُرِّس في صورته الجهادية كما سيحصل لاحقاً، بل كان، مثل قائمة مؤلفاته التي ينسخ بعضها بعضاً، مزيجاً من مفسِّر القرآن والمتأمل الأدبي فيه والمثقف التقدمي الإسلامي والداعية العنفي الذي صاره. موته ما سيثبته عند «معالم في الطريق»، كتابه الأخير. ودمه سيطلق ميكانيزمات الانتقام والتمثل والترميز من عقالها.
خلال عقد السبعينات اللاحق ستسيطر الجماعات الإسلامية على الجامعات المصرية، وسيطلق تنظيم «الطليعة المقاتلة…» السوري أولى رصاصاته التي ستتكاثر سريعاً. ستخرج قيادات وكوادر جماعة الإخوان المسلمين من السجون في مصر ويعاودون العمل بوتيرة متصاعدة ببطء، فيما ستنتعش فروع التنظيم في البلدان المختلفة، ومنها دول الخليج التي ولد فيها مزيج نشط يجمع الإخوانية والسلفية سمّي «السرورية». في الوقت الذي كانت فيه هذه الممالك والإمارات تخرج من صورتها البالية في أذهان العرب، وتصبح مقصداً للعمل وتكوين الثروات بعد الفورة النفطية والصحوة الجزئية، ومصدراً للتأثير الثقافي عبر الدعم المالي والجامعات الإسلامية وسيل المنشورات والمختصرات والمطويات، وصولاً إلى عصر الفضائيات.
استنقعت التقدمية العربية الحاكمة في الثمانينات، بانشغال صدام بحربه مع إيران، والأسد بدفع ضريبة قمع مجتمعه، والقذافي بمشاريعه الغرائبية. انفصل عنها المثقفون ممن يستحقون هذا الوصف، الذين لم يعودوا يجدون أنفسهم في الأحزاب الحاكمة، ولم يجدوا أحزاباً معارضة لينتموا إليها، بعد أن أصبحت كلها في السجون. وشاع بينهم مزاج من الفردية والمرارة. في مفتتح التسعينات أجهز انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية على مخزون التفاؤل لدى الأكثر يسارية، وانكسار العراق في حرب الخليج الثانية، ودخوله في حصار طويل سينتهي بإسقاط صدام، على ركيزة الاعتداد لدى الأكثر قومية. لم تعد المراجعات مرحلة هنا بل نمط حياة. انتشرت بينهم أشعار مظفر النواب، ولا سيما الأكثر شتماً ونحيباً منها، ومسرحيات زياد الرحباني التي قدمت العدمية «الكول» الأذكى لأجيال متلبننة أحدث لم تنسجم مع الشاعر العراقي. لكن الحصيلة كانت واحدة؛ الإعلاء من شأن التشكيك وعدم اليقين، والتوجس من العمل الجماعي، والنفور المبدئي من أي تفاؤل. وحتى السخرية الشاملة من نمط المناضل النشط في أعمال درامية كتبها، حكماً، مؤلفون تقدميون أو تقدميون سابقون. وبعد أن كان كتاب لينين «ما العمل؟» نبراس عقود من الثقافة اليسارية في القرن العشرين، صار كتاب «في مدح الكسل» لبرتراند راسل عنوان المرحلة. وإن تكاسل الكثيرون عن قراءته!
في المقابل كان الإسلاميون، وأبناء التيار الديني عموماً، وصولاً إلى قطاع أوسع من المحافظين؛ يعيشون أياماً مزدهرة. فمن جهة كانت «الأمة» قد عادت إلى أحضانهم بعد أن فشلت كـ«جماهير»، ومن جهة أخرى كان اليمين العربي، بمختلف درجاته وتلويناته وقطاعاته، قد خرج من دائرة الهزيمة الثقافية ومن تقليدية «الكتب الصفراء»، مع صعود دور نشر أصدرتها محققة في طبعات بيضاء زاهية، ومع شيوع التعليم الجامعي على نطاق واسع مستقطباً الطبقات الوسطى، وانتشار تعلم اللغات الأجنبية والإيفاد إلى جامعات أوروبية وأميركية معتبرة، وأخيراً مع مستوردات ثقافية «غير ضارة» بسبب سطحيتها وطابعها الإجرائي، في ما عرف بالبرمجة اللغوية العصبية وتطوير الذات وطرق النجاح والسعادة!
كان الزواج بين «القيم الإسلامية» وكتب المطارات والمحطات خليجياً بالأصل. ولذلك تحفل قائمة منشورات مكتبة «جرير»، السعودية، ذات الفروع الكبيرة العديدة، بترجمات كثيرة في التنمية الذاتية. وهي الدار نفسها التي طبعت كتب مراجعات قادة «الجماعة الإسلامية» المصرية، المناهضة للتطرف، التي ألّفها أصحابها وهم في السجون وخرجوا إثرها. غير أن مراجعات الإسلاميين ما تزال حالات فردية أو بؤرية غير معدية. فحتى عندما كتب سيد إمام الشريف، المرجع الجهادي المعروف باسم عبد القادر بن عبد العزيز، والقائد باسم الدكتور فضل، مراجعاته الجذرية؛ لم يؤثر ذلك في تنظيم «الجهاد» الذي كان أميره وشريك أيمن الظواهري في تأسيسه! إذ ما يزال «الأصالويون» تياراً ناهضاً، إن انهارت منه لبنة تقدمت أخرى لتحل مكانها، دون تنسيق. وهذا ما يشير إليه صعود الجهادية في العراق بعد انحسارها في أفغانستان، ونشاطها في سوريا بعد تخامدها في العراق.
في مقابل ريبية العلمانيين ونفورهم من أي فكر صلب يملك الدينيون يقيناً ثابتاً. وبدل السهرات المنزلية الكحولية لعزف العود والغناء للشيخ إمام وفيروز يقيم الإسلاميون ملتقيات دعوية شعبية. وفي وجه نوستالجيا «البرجوازي الصغير» الشاعرية ينظّمون دورات غير محدودة في «إعداد القادة» لا تزود منتسبيها بأي قدر من التواضع. وبدل مدح الكسل والبطء يُعلون من شأن «الهمّة». وهو، بالمناسبة، اسم دار النشر الرسمية التابعة للدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).