عبد الناصر العايد
في جولة المفاوضات الأخيرة حول صياغة الدستور، بين هيئة التفاوض السورية المعارضة، ووفد النظام، طرح الأخير قضية الرموز السياديّة للدولة، مثل العلَم وشعار الجمهورية والعُملة، وقد اعتبر الكثيرون أن هذه الورقة هي فصل جديد من استراتيجية المراوغة وتقطيع الوقت لا أكثر. وهي كذلك بالفعل، لكنها أيضاً تنطوي على حقيقة أخرى، وهي أن نظام الأسد لم يعد لديه ما يفاوض عليه سوى هذه الرموز السيادية التي يقبض عليها بحكم الأمر الواقع، بل أنه يتعيّش عليها فعلياً، بعدما سلّم كل أصول “الدولة” الصلبة الأخرى، من أرض وموارد وقرارات سيادية، لحُماته من المحتلين متعددي الجنسيات.
وعن استثماره للرمز السيادي المتمثل في احتكار طباعة وإصدار العملة، على سبيل المثال، فقد عمد البنك المركزي التابع للنظام، إلى طرح كمية جديدة من العملات الورقية من دون غطاء في الداخل السوري، من فئة الألفي ليرة، وهو إجراء متوقع مع الضائقة التي تشتد عليه يوماً بعد آخر، مع انشغال موسكو بغزوتها الأوكرانية، والعقوبات الاقتصادية الشديدة التي أنزلت بها، على الرغم من الآثار الاقتصادية المدمرة العاجلة والآجلة لطباعة العملة بلا غطاء، كالتضخم وانهيار القيمة والثقة في الليرة السورية،. وقد تجاهل النظام ومؤسساته المالية، ذلك كله، منذ زمن طويل، لصالح سياسة “العيش كل يوم بيومه”.
بعيداً من المصطلحات والتحليلات الاقتصادية المجردة والغامضة، يمكننا معاينة حال هذا “الرمز السيادي” الذي نافح عنه وفد النظام، بتتبع مسار الأوراق النقدية سيئة المواصفات التي تضخّها مطابع مجهولة وغير شرعية مقرها موسكو غالباً، والتي يتداولها المتعاملون بها اليوم برُزم تشبه الدفاتر أو الكتب، ويتم تحديد قيمتها أحياناً من خلال كيلها بالميزان.
وعلى سبيل المثال، يمكن للمرء أن يرصد أكياس خيش كبيرة مملوءة بهذه الأوراق النقديّة، عند الحدود الفاصلة بين دويلة الأسد ودويلة “قسد”، على ضفتي الفرات في محافظة دير الزور. ووفق ما أطلعنا عليه بعض التجار هناك، فإن أجهزة النظام الأمنية أرسلت عشرات المندوبين من أبناء المنطقة بصفة تجار، وزودتهم بالكميات التي يرغبون من العملة الورقية بالليرة السورية، والتي يحملونها إلى أسواق المواشي والأغنام، المشهورة باسم “الماكف” وتقام بالقرب من البلدات والقرى. وهي الأسواق الوحيدة التي ما زالت قائمة جزئياً، حيث يشتري المندوبون هناك أي شيء، نفط، قمح، شعير، خضار، أغنام، أبقار، مواشي ودواب أخرى، سيارات مستعملة، قطع كهربائية، خردة الحديد والألمنيوم.. الخ. ثم يحاول هؤلاء المندوبون بيع هذه المواد بنصف أو ربع قيمتها بالدولار، وتسمّى هذه العملية “الكَسر”، ولا يخسر عملاء النظام في النهاية الكثير، لأن ما يقدمونه لقاء أي كمية من الدولارات هو دفاتر ورقية ملونة لا قيمة ولا اعتبار لها.
ولأن بعض السلع لا يمكن شراؤها بالليرة السورية مهما تمت المبالغة بالسعر، مثل السيارة الفاخرة، فقد اتبع النظام أساليب ملائمة لاقتناصها، وخصص لهذه المهمة عدداً من أنصاف الوجهاء العشائريين، وكلّفهم بشرائها بالدَّين الآجِل، لمدة عام على الأقل، بسعر يفوق ثمنها بكثير، ثم يبادر هؤلاء إلى كسر سعرها أيضاً وبيعها نقداً بالدولار، الذي يأخذ طريقه مباشرة إلى خزان النظام وأهله في العاصمة. وعندما يحين موعد السداد يعتذر التاجر بشح العملة الصعبة في الأسواق، ويعرض الدفع بالليرة السورية بسعر مضاعف، فإن قبِل البائع كان بها، وإن لم يقبل وحدث أي تصعيد، يتجاوز العميل نهر الفرات إلى حيث يسيطر النظام ومليشياته لينتهي الأمر.
وقد رصد متعاملون في سوق السيارات، في كل من دير الزور والرقة والحسكة، العشرات من هؤلاء السماسرة، أحدهم في ريف دير الزور الشرقي، يشتري ثلاث إلى أربع سيارات بهذه الطريقة في اليوم الواحد، لا تقل قيمتها مجتمعة عن خمسين ألف دولار. بل إن تاجراً مزعوماً آخر، يشتري وبشكل علني، كفالة شيوخ عشائر ووجهاء، لشراء السيارة الواحدة بمبلغ ألف دولار، بعدما تراجعت مصداقيته في السوق.
تجري هذه العملية، بطرق مشابهة، في “الدويلات” الأخرى المجاورة لتلك التي يديرها نظام الأسد. فسواء في إدلب أو مناطق سيطرة الجيش الوطني، يمكن للمرء أن يرى دفاتر العملة الجديدة التي لا يكلف التجار أنفسهم عناء عدّها. وهنا يطرح سؤال آخر نفسه، ترى لو لم تبقَ تلك الدويلات قائمة، هل كان في إمكان النظام أن يديم عجلته الاقتصادية؟ وهل مزاعمه بخصوص الإصرار على استعادة “السيادة” على كامل الأراضي السورية، لها أي مصداقية؟ يمكننا أن نقرأ الإجابة في تصريح رأس النظام الذي قال بما يشبه الحسرة ذات يوم، بأنه لم يكن ثمّة شح في العملات الصعبة عندما كانت منطقة الغوطة خارج سيطرة قواته!
في عود على بدء، وبخصوص مناقشات اللجنة الدستورية ومهزلتها المستمرة، لا يبدو كلام وفد النظام عن الرموز السيادية بلا معنى، فمن أرسلهم لم يعد يمتلك في الواقع من أمر البلاد شيئاً يفاوض عليه، سوى العَلَم، ونشيد حماة الديار، ودرع الجمهورية. وطرحه لها على طاولة التفاوض، يشبه إلى حد بعيد عرضه للعملة الوطنية في سوق الأغنام، فكل قطعة نقدية تحمل كل تلك الرموز على وجهيها.
المصدر: المدن