جسر: صحافة:
لا تبدو العلاقات الأميركية الإيرانية هذه الأيام في حالة تصادم قصوى، مع الأنباء عن قرب عقد اتفاق نووي قدمت طهران تنازلات لافتة لإنجاحه، خصوصاً في بند إزالة الحرس الثوري من اللائحة الأميركية بأسماء القوى الداعمة للإرهاب. لكن المفاجئ أن هذا الحرس ذاته، هاجم على نحو مباشر ومتكرر، القوات الأميركية في سوريا، وهو ما يدعو إلى التساؤل عن دوافع هذا التحرك الإيراني وفي هذا التوقيت الذي لا يبدو مناسباً من نواحٍ عديدة.
فقد نشب، الأسبوع الفائت، اشتباك مستمر بين القوات الأميركية والمليشيات الإيرانية، على ضفتي الفرات بالقرب من مدينة دير الزور شرقي سوريا، أطلقت خلاله قوات الحرس الثوري ومليشيات أخرى تابعة لإيران قذائف صاروخية ومسيرات انتحارية على مواقع أميركية في كل من التنف وحقل العمر النفطي ومعمل غاز كونيكو. وردت عليها القوات الأميركية بقصف مواقع تمركُز قوات الحرس الثوري الإيراني ومليشيات تابعة له، شرقي وغربي وجنوبي مدينة دير الزور.
إن المحاولات التحليلية لربط التصعيد الذي بدأته إيران بالمفاوضات النووية، وبند الحرس الثوري فيه، غير مقنعة. فمن غير المنطقي أن يمرّ إقناع الغرب بأن الحرس الثوري غير إرهابي بشن هجمات عدوانية وعلنية من طرفه، لا سيما بالنسبة للولايات المتحدة التي لا يمكن ابتزازها بهذه الطريقة من طرق الضغط. كما أن سعي طهران الواضح لإنجاز الاتفاق النووي، لا ينسجم مع هذا التحرك الذي يبدو ناشزاً في السياق العام.
وما يمكن استقراؤه من حجم الضربات الإيرانية وتأثيرها، إنها هجمات دعائية، إذ لم تسفر سوى عن جروح طفيفة لجندي أميركي. وهدف العمل الدعائي متشعب، فهو يستهدف الرأي العام الموالي لطهران في الشرق الأوسط على منحيين، الأول للتغطية على التنازلات التي سيكشف عنها الاتفاق النووي بنسخته الجديدة، والثاني لشد عصب هذا الجمهور نحو طهران في المرحلة المقبلة التي ستلعب خلالها دوراً أكثر محورية في الشرق الأوسط، بُعيد استعادتها قواها النفطية، والتساهل معها سياسياً وأمنياً من طرف الغرب.
تستهدف الضربات الدعائية أيضاً، صانع القرار في واشنطن والرأي العام الأميركي، إذ تريد طهران أن تدفع البيت الأبيض للتفكير ملياً في وجوده السوري، والأثمان التي يمكن أن تترتب على عدم انسحابه من هذا البلد، وهو الانسحاب الذي يبدو مرجحاً في المدى القصير. وتريد القيادة الإيرانية أن تقول أن الوجود الأميركي سيبقى هدفاً للضغوط الإيرانية، حتى مع عقد اتفاق نووي، وحتى لو اقتصرت “الخسائر” الأميركية على جروح طفيفة لجندي أميركي واحد، فهذا في حد ذاته سيكون مصدر صداع للرئيس الأميركي، الذي يسعى ما استطاع للتخلص من المتاعب الشرق أوسطية، والتفرغ للصين وروسيا بوصفهما أولويته الملحّة.
ثمة رسالة أيضاً للحليف الروسي الذي تشاطره إيران السيطرة على الأرض السورية. فموسكو الغارقة في حرب أوكرانيا، ستطلب بالتأكيد من طهران الآخذة في التعافي، التزامات أكبر في سوريا، وهذه لا يجب أن تمرّ بلا ثمن، وثمنها ليس أقل من الاعتراف بالقيادة والريادة الإيرانية في سوريا ذات الأهمية الجيوسياسية المركزية لإيران. من سيتحدى واشنطن في سوريا، ويدفعها ربما لمغادرتها، يجب أن تكون كلمته هي العليا، على نحو ما هو الحال في العراق ولبنان.
تركيا بدورها معنية بهذا التصعيد، وهي يجب أن تعلم أن الانسحاب الأميركي من شرق الفرات، وحلمها الدائم بتقويض الكيان الكردي، لن يحدث سوى بأيدٍ وإرادة إيرانية. فوفق الصورة الحالية، لن يكون في إمكان أي قوة أن ترث مناطق النفوذ الأميركي سوى المليشيات المرتبطة بإيران، وهي وحدها من سيقرر مصير الأكراد الميداني.
ثمة رسالة متضمنة أيضاً لنظام الأسد الساعي لموازنة القوى من حوله، ليبقى هو قوة مرجحة على الأقل في المشهد، خصوصاً لجهة إعطاء أذنه لموسكو في مرحلة التطبيع مع تركيا. فهو يجب أن يعرف أن إيران هي حليفته الأكثر نفوذاً، وأن دورها الذي لا يستطيع تجاوزه، يجب الإقرار به بشكل كامل وترسيخ مكاسبها المتراكمة لأكثر من عقد من الصراع على الأرض السورية، وتتويجه بزاعم هزيمة الولايات المتحدة على الأرض السورية. إيران لديها تجربة طويلة في لعب نظام الأسد الأب والابن على التناقضات الإقليمية والدولية، وهي تعلم أنه لا يؤتمن، فاستدارته تركياً أو عربياً، أو حتى نحو إسرائيل، محتملة في أي لحظة يحتاج فيها إلى ذلك، أو يشعر فيها بعدم الحاجة إلى دعم طهران الحاسم.
كذلك إسرائيل يمكن أن تصلها إشارات قوة واضحة عبر هذه الرسائل، ومنها أن جهودها لضرب القوة الإيرانية المتنامية في سوريا قد ذهبت سدى، وأن هذا الوجود صار من الرسوخ والقوة بحيث أنه يتحدى القوة العالمية الكبرى، لا تل أبيب وحدها، وأن من الخير لها التفاوض معها بدلاً من الاستمرار في ضرباتها العبثية لمواقع إيرانية تتكاثر كالفطر في سوريا.
في المحيط العربي، لا يمكن إغفال تأثير عرض العضلات الإيرانية هذا على مشاورات تشكيل الحكومة في العراق أو معركة الرئاسة في لبنان، فالعواصم العربية الوالجة في هذه القضايا، ستتنبه تلقائياً إلى الذراع الإيرانية الطويلة التي تتحرك وتحرك المشهد بأعلى مستويات الجرأة.
إن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط معلن وظاهر، والمنطقة لم تعد من أولوياتها التي تتصدرها قضايا أكثر إلحاحاً بكثير، وتمسكها بوجودها في سوريا ليس بالإصرار ذاته الذي كانت عليه قبل سنوات. تؤكد ذلك ردودها على الهجمات الإيرانية بشكل “متناسب” يتوخى عدم قتل عناصر من المليشيات الإيرانية، كما عبّر عن ذلك بشكل صريح الرئيس الأميركي نفسه. وهذا نهج يختلف جذرياً عن سلوكها العام 2018، على سبيل المثال، عندما هاجمت قوة من مليشيا فاغنر الروسية، معمل كونيكو الذي هاجمته المليشيات الإيرانية مؤخراً، وكان الرد الأميركي بصنع محرقة للمقاتلين الروس، قتل فيها منهم نحو 280 عنصراً.
لكن على القيادة الإيرانية أن تلتفت برأسها شمالاً، لتعاين حالة بوتين الذي شن حربه على أوكرانيا بحسابات مشابهة، قائمة على انشغال واشنطن بالصراع مع الصين، وغرق أوروبا في سياسات التنمية الاقتصادية وعجزها عن المواجهة العسكرية، وضعف قوة الجيش الأوكراني وقيادته. الأمر الذي قاده إلى سوء تقدير استراتيجي، سينتهي حتماً بهزيمته، وإلحاق خسائر وخيمة بمكانة روسيا ومستقبلها. وطهران، المنتشية بقرب عقد اتفاق يمكّنها من حصد المزيد من الأموال والنفوذ، يجب ألا يغرّها تراجع الدور الروسي، ولا ما يبدو أنه هزيمة تركية في سوريا، ولا تراخي الصف العربي وتضعضعه، ولا الصمت الإسرائيلي. ويجب ألا تصدق أن هرولة مليشياتها في أعقاب القوات الأميركية المنسحبة لأسباب أخرى، هو انتصار يتيح لها تبووء مقعد القيادة في سوريا. فهذا البلد سيبقى بؤرة تنازع إقليمي ودولي، زمناً طويلاً، ومكاسبها فيه لم ولن تكون راسخة في يوم من الأيام، لأسباب كثيرة، أكثرها بديهية التاريخ والجغرافيا.