جسر: متابعات:
لا أحد يعرف بالضبط ما طبيعة الحياة الدولية التي ستولد من كارثة وباء كورونا العولمي، بعد أن تتحقق السيطرة عليه في الأشهر المقبلة، فبينما يخشى اقتصاديون انهيارا اقتصاديا أكثر عنفا من انهيار 1929، مع إغلاق آلاف الشركات أبوابها وتقلص الأسواق ورمي عشرات ملايين العاطلين عن العمل في الشوارع من دون مورد، يعتقد آخرون أن نهاية الكارثة الكورونية سوف تطلق دينامية اقتصادية توسعية قوية تعوّض عن الخسائر الحاصلة. وبينما يعتقد بعضهم أن الأزمة الناجمة عن هذه الكارثة سوف تدفع النخب العالمية إلى مزيد من التنسيق بين خططها وسياساتها العالمية، يرى آخرون أن من المحتمل أن تفتح نهاية الأزمة الباب أمام تنافسٍ لا سابق له على الأسواق العالمية، وربما العودة عن العولمة، والانكفاء على الحدود القومية كما كان عليه الحال في المراحل السابقة من الرأسمالية.
وبالمثل، لا تبدو نهاية الأزمة حاسمة على الصعيد الجيوسياسي، وبالنسبة للاتجاه الذي سوف تتخذه العلاقات الدولية، هل ستنهي الأزمة/ الكارثة سيطرة الولايات المتحدة والغرب لمصلحة صعود القوى الجديدة، وفي مقدمتها الصين والهند والدول الصاعدة، أم أنها ستجدّد مناخ الحرب الباردة، ولكن هذه المرة بين القطبين الكبيرين في بكين وواشنطن. وعلى المستوى السياسي، يخشى كثيرون عن حق من أن تنتج كارثة كورونا البيئة المثالية لانفلات الأيديولوجيات الشعبوية من عقالها، وأن يحصل التراجع عن الخيارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعاون الدولي الذي أظهر عجزا ملحوظا في مواجهة الكارثة الراهنة، على الرغم من تكرار الحديث عن أهمية العمل المشترك لتجاوزها.
لم يبرز واقع الافتقار لسياسة عالمية متسقة في مواجهة المخاطر الطبيعية والاجتماعية، كما حصل خلال هذه الجائحة الصحية التي طاولت البشرية بأكملها، حيث نكاد لا نرى أي جهودٍ دوليةٍ مشتركة، للرد على مخاطر انتشار الوباء على الصعيد العالمي. وتسعى كل دولة حسب ما يتوفر لديها من موارد وإمكانات ومنظومة صحية أن ترد على التحدّي بوسائلها الخاصة. حتى أن منظمةً للتعاون الدولي من طراز رفيع، كالاتحاد الأوروبي، تكاد تفقد الثقة بإمكانية استمرارها بعد الأزمة الراهنة، بسبب ضعف التنسيق والتعاون فيما بين دولها، وهو ما حاولت إنقاذه القرارات الأخيرة لمساعدة إيطاليا وإسبانيا، وبعض الدول الأكثر تضرّرا من الوباء.
تكمن المشكلة الرئيسية في نظري في أن العالم الذي أصبح واحدا، ويسير بسرعة أكبر نحو توحيد المصائر البشرية، كما أظهر ذلك الانتشار السريع لوباء كورونا نفسه، لا يزال يفتقر إلى الجملة العصبية التي توحد حركاته وعلاقاته وتنسقهما. ولذلك يبدو بل يصبح بالفعل أكثر تباينا في الأوضاع والأحوال والإمكانات والموارد المادية واللامادية، بمقدار ما يزداد اندماجه. وتخلق هذه الديناميكية المهيأة للتنامي مع تقدّم مكاسب الثورة الرقمية وتعميمها وضعا مضطربا وعالما مليئا بالمفارقات. وبعكس التصورات الساذجة لنهاية القرن الماضي التي اعتقدت أن نهاية الحرب الباردة، وتقدّم العولمة، سوف يقودان إلى نشوء عالم منسجم ومتّحد ومتناغم، أطلق عليه اسم القرية الصغيرة التي لا يحتاج فيها الناس إلى جهد لمعرفة حال جيرانهم، وإقامة علاقات حميمية وشفافة معهم، ومساعدتهم عند الحاجة، أنتجت العولمة مجتمعا دوليا أكثر انقساما وتنافرا وتناثرا وكتامة في الوقت نفسه. وعلى الرغم من تقليصها بالفعل المسافات التي تفصل بين المجتمعات، واختصارها المدهش الزمن الذي يحكم تفاعل الناس فيما بينهم على اتساع المعمورة، لم تعمل عولمة رأس المال والأسواق والإعلام وشبكات ومنصات التواصل الرقمية على بعث مزيدٍ من التجانس في شروط حياة الشعوب، وانسجام أكبر في التعايش بين الثقافات، بمقدار ما أبرزت الاختلافات في الأحوال والأوضاع والمطالب والمشاعر أيضا، وما أبدعت من أنماط جديدة في الفقر والغنى والجهل والمرض والتنور والإيمان والكفر والمدنية والهمجية، ومن احتكاكات أكثر خطورةً بين الهويات الاجتماعية والثقافية المتنافية والمتقاتلة، ومن تصادم المشاعر والمخاوف والتفاوت المضطرد في مستويات الحياة والمعيشة والمصالح والتوجهات.
أربعة مواقف تميز سلوك الأفراد والجماعات في مواجهة الأزمة المتفاقمة الناجمة عن تنامي المطالب والتطلعات المشتركة لعموم الإنسانية إلى السعادة والحرية والكرامة، وتوسع قاعدة انتشارها مع تقدّم المدنية من جهة، والعجز المتزايد لعالم العولمة النيوليبرالية عن تلبيتها، وبالتالي تعميم الشعور بالبؤس والإحباط والحرمان والاستعداد للعنف لدى قطاعات واسعة من المجتمع الإنساني من جهة ثانية:
الأول هو موقف تجاهل الآخر. صحيحٌ أن من يقطن قريبا مني، في القرية الكونية، يصبح جاري وشريكي في الإنسانية، لكنه لا يظهر في مرآتي، ولا أعرفه، ولا أريد أن أعرفه، ولا يعنيني مصيره وليس لدي تجاهه أية مشاعر سلبية أو إيجابية. إنه ببساطة غير موجود بالنسبة لي ما لم يصدر عنه ما يهدّد وجودي أو مصالحي. وعلى هذا الموقف التجاهلي يبنى الآخر، المتجاهل والمغيب تماما عن النظر، استراتيجيته للتذكير بوجوده، وأحيانا مصالحه، وهي إظهاره، من وقت إلى آخر، قدرته على الأذى وإقلاق راحة الجار المتباعد، وربما التنغيص على القاطنين في القرية الكبيرة حياتهم وتهديدهم في مصالح أساسية، وهي استراتيجية “كاسر مزراب العين” التي يشرب منها أهل القرية جميعا.
والموقف الثاني هو العنصرية. ولا تعني العنصرية اليوم بالضرورة إبادة الطرف الآخر، كما حصل لسكان القارة الأميركية الأصليين، وبعض مناطق أفريقيا على يد المستعمرين الغربيين الذين اعتبروا “أعداءهم” أقل من بشر وأسوأ من وحوش، وإنما يكفي لها إقامة نظام الفصل العنصري، بالجدران المادية أو بالجدران السياسية والقانونية أو الفكرية والنفسية. ومن وراء إشادة هذه الجدران تكمن فكرة جوهرية: نحن المدنية وهم الهمجيون أو المتوحشون، لنا ثقافتنا ولهم ثقافتهم، ولا نستطيع أن نعيش معا أو نتساوى في الحقوق والواجبات، وما ينطبق علينا من قوانين ومعايير وقيم لا يمكن أن نطبقه ولا ينطبق عليهم. وهذا يعني التحرّر من الفلسفة الإنسانية الكونية التي سادت منذ عصر التنوير، وجعلت أوروبا في الواقع في مركز مدينة كونية، وزودتها بقوة مادية ومعنوية استثنائية مكّنتها من احتلال قارات عديدة، والانتشار فيها والحلول محل شعوبها ومدنياتها، في أميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها. ومن آخر تجليات العنصرية الجديدة النظر إلى المناطق والجماعات البشرية الأخرى أنها حقل تدريب واختبار للأسلحة الفتاكة الحديثة، كما تفعل روسيا في سورية، أو بمثابة فئران تجارب تستخدمها للحصول على نتائج مجانية أو تقلل من التكلفة الإنسانية، كما اقترح منذ أيام باحث فرنسي، في حديثه عن تسريع التوصل إلى لقاح ضد كورونا، بالقيام بالتجارب مباشرة على البشر في أفريقيا، حيث لا توجد كمّامات ولا أدوية ولا حجر صحي، وحيث يموت الناس على جميع الأحوال.
والموقف الثالث هو إنكار مصالح الآخر وحقوقه، نهارا جهارا، كما نقول، وربما إنكار وجوده من الأساس للحلول محله. وقد أصبح الإنكار سياسة قائمة بذاتها، تقوم على تحويل الواقع إلى وهم والوهم إلى حقيقة. وهو من الأساليب التي ورثها العالم الراهن عن النظم الشمولية، لكن تعميمها يتخذ اليوم أشكالا متعدّدة قد تصل عبر تعميم مفهوم المؤامرة إلى تبرير الإبادة الجماعية.
والموقف الرابع الحرب، أي العنف المنظم والقاتل، الذي يمكن أن يبدأ من الحصار والعقوبات المشدّدة حتى يصل إلى مستوى الإبادة، وهو ما يهدف إليه الجيل الجديد من أسلحة الدمار الشامل، التي تقتل عن بعد، من دون جهد ولا كلفة بشرية، ومن دون صور، وبالتالي من دون ألم. وليس من الضروري أن تكون الإبادة اليوم بوسائل بدائية على طريقة حرب التطهير العرقي، كما حصل في بلدان أفريقية عديدة في القرن الماضي، وكما هو الحال في سورية، منذ بداية هذا العقد، حيث تقصّد بشار الأسد بث صورة مجازره وسلخ جلود ضحاياه في أشرطة، وعرضها في القنوات، إمعانا في الانتقام والتعبير عن الهمجية والعنف الأعمى، وإلحاق مزيد من الأذى النفسي والمعنوي بمن ثاروا عليه. كما أنه ليس من الضروري أن تكون استراتيجية الفتك بالمجتمعات، وحل بنياتها السياسية ومؤسساتها ومراكزها العصبية، ومن ثم تدميرها، كما شهدنا ذلك في العراق، منذ 2003 بشكل خاص، ردا على أعمالٍ عدوانيةٍ ارتكبتها، أو ارتكبها ممثلوها، وإنما وقايةً من احتمال السيطرة عليها من طرفٍ معاد، أو قطع الطريق على تغييرات محتملة لا تتفق وخيارات الأطراف الأخرى.
هكذا أصبحنا نعيش في عالمٍ مسكون بالنزاعات والحروب الدائمة والمتنقلة، حتى أصبحت تغطية أعمال الموت والحروب المنتشرة في مختلف القارات المادة الرئيسية لأخبار قنواتنا وإذاعاتنا، وقد اعتدنا عليها إلى درجةٍ لم تعد تثير لدينا أي تساؤل أو رد فعل. أصبحت الحياة صراعا دائما، تماما كما أصبح الفقر والبؤس والمرض الذي يضرب في أنحاء مختلفة من المعمورة، أمرا طبيعيا، وأصبح بناء الجدران العازلة حلا مناسبا للحدّ من موجات المهاجرين أو البرابرة، كما صارت الحرب على الإرهاب أو التصدي لـ”المؤامرة الكونية” مبرّرات كافية لسحق احتجاجات الشعوب، أو الانتقام من خصم، أو إجهاض مشاريع منافسة. ولا تقتصر هذه التكتيكات على حقل العلاقات الدولية، ولكنها تسم أيضا العلاقات داخل المجتمعات ذاتها، بين الأطراف المتباعدة والمتنابذة أكثر فأكثر، مع تفكّك ما كانت تسمى الأمة أو الروح الوطنية، وبشكل خاص داخل الأقطار الفقيرة والضعيفة التي تتحكّم بها منذ الآن نخب لا تكاد تشعر بالتزام من أي نوع تجاه شعوبها، وتعمل كما لو كانت وكيلة للاستراتيجيات الدولية.
ليس من المؤكد، إذن، أنه إذا لم يحصل اختراق في المنطق الذي يحكم العلاقات داخل هذه القرية المأزومة، ألا يكون عالم ما بعد كورونا أسوأ بكثير مما كان قبله، بل إنه بالتأكيد سيكون عالما متوحشا بشكل مضاعف. في المقابل، يمكن أن تعطي أزمة هذا الوباء درسا للمستقبل لنا جميعا، لتحسين قدرتنا كمجتمع دولي على مواجهة ما يشابهه من المخاطر ذات الأبعاد الكونية التي سنشهدها بشكل متواتر وأكثر فأكثر. وفي هذه الحالة، من المفيد أن ننظر إلى هذه الكارثة من زاوية الحاجة للتأمل في نمط الإدارة الراهنة للعالم، والتي درجنا فيها على توظيف الجزء الأكبر من مواردنا، وجهود شعوبنا، وإبداعات عباقرتنا، في خوض الحروب والنزاعات أو الإعداد لخوضها، بدل تطوير وسائل التعاون والعمل المشترك لصد الجائحات الكبرى، وهو ما جعلنا لا نحرك ساكنا أمام مرأى انتشار الأوبئة والأمراض والتشرّد والنزوح والجوع والعطش، زعزعت وتزعزع باستمرار حياة قارّات ومناطق واسعة من العالم قريبة منا.
الشعور بالهشاشة الذي استبد بحق بالإنسانية أمام فتك الفيروس الجديد لا ينبع من إدراك مستجد بنقص تقدمنا العلمي والتقني، ولا بنقص الموارد التي تتوفر لدى البشرية الراهنة لمقاومة الجوائح والأوبئة والمخاطر الطبيعية الأخرى، وإنما من تخبط قادتنا وحكوماتنا في مواجهته. ولا يرجع هذا التخبط إلى نقص الكفاءة الإدارية أو الذكاء أو الخبرة والشعور بالمسؤولية عند النخب العالمية. إن سببه الحقيقي هو اكتشاف ضعف قنوات التواصل، وسبل التعاون الدولي الفعال، من خارج المؤسسات الوطنية، لبلورة رد عالمي أو عولمي من مستوى التحدّي الجديد، فأثار الارتباك وأضاع وقتا طويلا قبل لملمة الموارد الكبيرة والإمكانات التي في حوزتنا للتدخل السريع والشامل لمحاصرة المشكلة.
والواقع لا يختلف سلوكنا تجاه هذا الوباء الكوني كثيرا عما نُظهره تجاه المخاطر الكونية الأخرى، مثل تلوث البيئة وتبدل المناخ، والقضاء على ظواهر الفقر والجريمة المنظمة والمتاجرة بأعضاء البشر والمخدّرات والإرهاب، فلم ننجح إلا في ميادين محدودة جدا في التعاون لمواجهتها. وفي حالات كثيرة، يستخدم بعضنا هذه الكوارث ذاتها وسائل حرب ضد خصومه، أو منافسيه من الشعوب والمجتمعات الأخرى. ولكن الفرق أنه، بعكس ما يجري مع هذه المخاطر، كان خطر الوباء الكوروني داهما وسريعا لا يفيد فيه التردّد والعنعنة وشراء الوقت، كما حصل في قضايا المناخ والبيئة وغيرها. والواقع، فيما وراء النقص الواضح في وسائل التعاون والعمل العالمي المشترك، يرجع العطب الذي يقيّد حركتنا إلى سيطرة المنطق العام الذي لا يزال يحكم النظام العالمي والعلاقات الدولية برمتها، وهو منطق النمو الاقتصادي المضطرد واللانهائي، الذي يضع الموارد المادية واللامادية، أي رصيد الإنسانية ورأسمالها، في خدمة أولوياتٍ أثبت الزمن الماضي أنها غيرت بالفعل شروط حياة الإنسان إلى الأفضل، فصار التشبث بها قاعدة شبه مقدّسة للقيادات السياسية.
ولكن إذا لم يكن هناك شك في أن التراكم الحضاري الذي حصلنا عليه ما كان ممكنا من دون الرأسمالية التي خلد كارل ماركس نشأتها وانتصارها على النظم الاجتماعية القديمة الأخرى جميعا في كتاب “رأس المال” الشهير، فليس من المؤكد اليوم أن ما كان منتجا، وما قلب شروط حياة الجماعات رأسا على عقب منذ قرنين، لا يزال قادرا على تثويرها اليوم. كما أنه ليس من المؤكد أن التراكم الرأسمالي الذي كان وراء هذه الثورة الاقتصادية والاجتماعية، وحافز تعظيم هامش الربح، لا يمكن أن يتحول في مرحلة تالية إلى منطقٍ غير منتج، وربما إلى العقبة الرئيسية أمام سعادة البشرية، حتى لو استمرّت عجلة الإنتاج في التحرّك، وكانت صناعة السلاح والإعداد للحرب القطاع الأكثر إدرارا للربح/ الريع فيها.
وربما يساعدنا التأمل في الأزمة الجديدة على النظر فيما إذا كان لا يزال من المفيد الاستمرار في وضع النمو في الأرباح والسلع والرساميل أولوية مطلقة تنتظم من حولها المجتمعات البشرية، أم أصبح من الأفضل التفكير في تغيير الأولويات، وإعطاء الأسبقية، ولو مرحليا، لغاية تبدو أخلاقيةً، لكنها وحدها تستطيع أن تعيد بعض الانسجام والوحدة والسلام والأمن للعالم، وتساعد على توجيه الجهود بما يسمح بامتصاص التناقضات وتخفيف حدّة الانقسامات والتوترات والاختناقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتشوهات التي أحدثها النمو المتسارع في العقود الأربعة الماضية، مما يمكن أن يساعد المجتمع العالمي على هضم المكتسبات الحضارية وتجنب مخاطر السير لا محالة نحو الانفجار. لن يكون ذلك سوى الرجوع خطوة إلى الوراء من أجل التقدّم خطوات عديدة إلى الأمام في المستقبل، ولكن على أسس أسلم، تجنب النظام القائم أزمة اقتصادية عظمى، كان جميع الخبراء يتوقعونها، قبل أن تغطي عليها أزمة وباء كورونا.
والقصد أننا لن نستطيع أن نخرج من الطريق المسدود الذي نجد أنفسنا فيه، اليوم، على الرغم مما حققناه من تقدّم علمي وتقني لا سابق له، من دون العودة إلى التفكير بشكلٍ أعمق في الشرط الإنساني. ويعني الشرط الإنساني التفكير في حياة الإنسان، الفرد والجماعة، وفي القيم التي تعطي لحياته معنى، من الكرامة والحرية والأمن والسلام والسعادة، وما يستدعيه تحقيق ذلك كله من تفاهم وتعاون وتضامن بين البشر داخل حدود الدول وعبرها، ومن وراء حسابات الأرباح الصناعية والمكاسب التقنية والتقدم العلمي أيضا. أي التفكير في الأخلاقيات التي توجه خيارات الإنسان وتشكل أولوياته، في السياسة والحرب والاقتصاد معا، والذي لن يستقيم اليوم من دون أن يكون، في الوقت نفسه، تفكيرا في الأخلاقيات الكونية. وهو ما تحثّ عليه ولادة مجتمع إنساني عالمي، لم يلحظ معظمنا وجوده الحقيقي، أو لم نعر لوجوده أهمية كبيرة حتى الآن بسبب انشغالنا، وإشغالنا، بالحروب والنزاعات التي تكاد تحتل اليوم البند الأول في أجندة دول “وطنية” عديدة، و”فضيلة” كورونا، الوحيدة ربما، أنها سلّطت من أجلنا الضوء على نقص إنسانيتنا في وقتٍ بدونا فيه إنسانيين وبشرا، فيما وراء الاختلافات الثقافية والاجتماعية والقومية، كما لم نكن في أي حقبة سابقة.
بمقدار ما أظهر الوباء المستجد انسداد طريق التنمية الوطنية، مهما كان حجم الدولة القُطرية، وغياب سياسات التعاون والتضامن والتنسيق في القضايا الكبرى التي تمس جميع أبناء البشرية، أبرز أيضا، بشكلٍ لا سابق له، غياب القيادة العولمية التي تنظر إلى العالم ككل، وتبحث في اتساق حركته، وفي تنظيم أفعال مكوناته وعناصره، وتضع له جدول أعمالٍ يختلف بالضرورة عن جداول أعمال السياسات الوطنية الخاصة بكل دولة وقُطر. بل إن التنافس بين هذه الإدارات الوطنية المتعدّدة أصبح المصدر الرئيسي للفوضى التي يشهدها العالم اليوم، بما في ذلك بمناسبة التصدّي لجائحة كورونا الراهنة.
حاولت الولايات المتحدة، مستفيدة من قدراتها ومواردها الهائلة، أن تتنطع لهذه القيادة، وتحتل موقع السلطة العالمية، وتصوغ جدول أعمالها، وحدها تقريبا، في العقود القليلة الماضية. ولكن سرعان ما تحطمت أحلامها بعد فشلها الذريع في قيادة العالم نحو حقبةٍ أكثر سلمية وتضامنا وتعاونا، وهو ما كانت الأمم والشعوب تنتظره، بعد انتهاء الحرب الباردة، وتنظر إليه بمثابة فرصة للملمة صفوفها وتضميد جراحها، وتفعيل آليات التضامن التي كان من الممكن أن تمثلها منظمات الأمم المتحدة، لبناء عالم جديد يكرس الجزء الأكبر من موارده وإبداعات علمائه لتقليص الفوارق بين طبقات الأمم والمجتمعات، بدل الاستمرار في توظيفها في الحروب والنزاعات المتواصلة لفرض السيطرة أو الهيمنة العالمية، ولكن ما حصل كان العكس تماما، فقد أحبطت الدولة الأعظم تطلعات الشعوب نحو عصر من السلام والتعاون والازدهار عندما تعاملت مع سقوط جدار برلين أنه فرصة تاريخية لتحقيق أقصى ما يمكن من مصالحها الوطنية الخاصة أو مصالح زعمائها، وتصرّفت بوصفها الرابح الأكبر، وشرّعت للوحوش المفترسة الأصغر أن تحذو حذوها.
ولا يزال الشرق الأوسط يعيش العواقب المدمرة لمغامرتي أفغانستان والعراق اللتين حولتا المنطقة إلى خراب كامل، ومسرح للحروب والنزاعات المتعددة الأبعاد والأطراف، لعقود مقبلة عديدة. ولا يقل تهورا ارتداد الرئيس دونالد ترامب نحو سياسةٍ قوميةٍ متطرّفة تدفع العربة العالمية إلى التهور والسقوط في هوةٍ لن يمكن الخروج منها بسهولة. ولكن السبب في الحالتين ليس طيش ترامب، ولا انكفاء سلفه باراك أوباما وتخليه عن المسؤوليات العالمية، وإنما أبعد من ذلك بكثير، غياب منظومة فكرية وسياسية وأمنية متسقة ومتفاهم عليها، أي وجود قيادة عالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة، تقوم على قبول الأطراف جميعا، بما فيها الدول الصغيرة المفتقرة للموارد، ومشاركتها في المسؤولية وبناء نظامٍ من الالتزامات الفعلية المتبادلة، تحل محل انتظام عالمي لا يزال قائما على القوة والتهديد بالقوة وعلى التحالفات العسكرية وصراع المحاور. وهذا هو نظام الهيمنة الذي يدفع إلى مزيدٍ من صدام المصالح والنزاعات الدموية، بمقدار ما يعمّق التفاوت في شروط الحياة الإنسانية، وتقاسم ثمرات التقدّم الحضاري، في عالمٍ لا تكفّ فيه المسافات والأزمنة عن التقلص، والتطلعات الإنسانية نحو المساواة والتحرّر عن الصعود. وهو النظام نفسه الذي حيد منظومة الأمم المتحدة التي راهنت المجتمعات الضعيفة عليها لإدخال قسط من الشرعية لإحلال لغة الشرعية والقانون محل لغة السلاح والقوة، وقوّض رسالتها الإنسانية التي جعلت الحفاظ على السلام والأمن العالميين، أي سلام وأمن جميع الشعوب بالتساوي، مبرّر وجودها نفسه. وكان من الطبيعي أن تتحول إلى ما يشبه المنظمة الخيرية التي تعنى بالشؤون الإنسانية والاجتماعية، وأن ينتزع موقع القيادة والقرار العالميين كارتيل السبع الكبرى، أو الـ”G7″.
قد ينجح العالم، هذه المرّة، ولو بتكاليف باهظة، في تجاوز أزمة وباء كورونا، وربما من دون القدرة على منع الفيروس من الاستيطان في بؤر كثيرة لا تملك وسائل إزالته. ولكن ليس هناك أي ضمانة كي لا نخسر الرهان في المستقبل أمام الجوائح الاقتصادية والبيئية والصحية والديمغرافية المتنامية، والتي تلوح في الأفق، إذا فشلنا في أخذ العبرة من التجربة الراهنة، ولم نستوعب أننا أصبحنا الآن كمن يركب سفينة واحدة، ويمخر عباب محيط هائج، ولكن من دون قبطان، أو بمتنطعين كثيرين يتنازعون على القيادة، ولا يملك أي واحد منهم خريطة طريق، أو هدفا واضحا يصلح كي يكون غاية مشتركة تتحد من حولها إلإرادات لتنتج إرادة واحدة.
والحال أن الإنسانية تملك اليوم الموارد والإمكانات التي تؤهل الجميع للعيش بكرامة وسلام، إذا عرفنا كيف نعيد تنظيم حياتنا، وتعديل سلوكنا وأساليب إدارتنا هذه الموارد وسياساتنا الاجتماعية والدولية وخياراتنا. وقدّمنا قيم التضامن والتعاون العالمي على الخضوع للقوانين العمياء لأسواق المال والأعمال، والشركات التجارية والمصارف والمنصّات الرقمية التي تتحكّم بها قوى لا أحد يسيطر عليها حتى الفاعلون أنفسهم، والتي لا غاية لها سوى تعظيم المكاسب الخاصة والأرباح، بصرف النظر عن النتائج المباشرة وغير المباشرة على الأفراد والمجتمعات. وإذا نجحنا في أن نضع لأنفسنا أي للمجتمع العالمي غايات موجهة تليق ببناء مدنية إنسانية جديدة، تسودها قيم وعلاقات التعاون والمودة والألفة والانسجام، وتنظم شؤونها فكرة العدالة التي هي اليوم أكثر ما نفتقر إليه في جميع القارّات. في هذه الحالة، ينبغي أن يشعر كل فرد وكل مجتمع بأن مصير المجتمع الآخر يعنيه، وأنه لا يستطيع أن يتركه لمصيره من دون أن يهدّد مصيره هو بالذات، وأن إرضاء الحاجات الأساسية لجميع سكان المعمورة سابق على مراكمة الأرباح والرساميل والسلع، وأن كلفة تحقيق السلام ربما تكون أقل بكثير من تكاليف الاستيطان في الحرب والإعداد الدائم لها.
هل ينجح الوباء الكوروني في أن يتحوّل إلى لحظةٍ مفصلية تهز قناعاتنا الثابتة، وتدفعنا إلى مراجعة أسلوب إدارتنا القديم للعالم، والذي أصبح ينتج من البؤس والإحباط والضغينة أضعاف ما ينتجه من السعادة والنشوة والفرح والازدهار، ويساعدنا على وضع الأمور في نصابها من جديد، أي العودة إلى السير على الأرض بأقدامنا، ورأسنا إلى الأعلى، لا السير على رؤوسنا والتفكير بأقدامنا، كما تفعل جميع جيوش العالم، أي أن نفكر كعالم واحد، بالفعل، لا عالم معولم بالقوة والغش والخداع؟
لا يوجد في نظري مبدأ آخر يمكن أن تبنى عليه إعادة النظر في النظام العالمي الراهن، أي في العولمة النيوليبرالية التي وضعت العالم في سفينة، ورمتها في بحر هائج، من دون قبطان، أو بأكثر من متنطع للقيادة، والسير في بناء نظام جديد يخرجنا من حالة التخبّط والعنف والفوضى وحروب التدمير المتبادل، غير مبدأ التضامن الإنساني الذي يمكنه وحده أن يغير من نظرتنا لأنفسنا وللحياة في المجتمع وللعلاقة مع الطبيعة ولمفهوم العمل والإنتاج والتقدّم والمدنية، ويدلنا على الطريق الصحيح لاستعادة إنسانيتنا المهدورة.
هل هذا حلم رومانسي. بالتأكيد، لكن الحلم الذي يملك أدوات تحقيقه يتحول إلى خيار واقعي، متى ما وجد من يؤمن به ويعمل من أجله. ولعل الجانب المضيء الوحيد في كارثة كورونا هو تذكيرنا بأنه لا خيار لنا سوى التعاون في مواجهة الكوارث المقبلة، لا محالة، في عالمنا الذي فقد وجهته وأضاع بوصلته، وأن الجهود المطلوبة للارتقاء بمستوى هذا التعاون تكاد لا تزن شيئا مقارنةً بتلك اللازمة لبث الذعر والهلع وكسر الإرادة المتبادل. أما البديل فهو من دون أدنى شك مزيد من التخبط والفوضى والأزمات والاختناقات والمواجهات الفاشلة.
باختصار، لن يغير وباء كورونا من سوء أحوالنا ما لم نغير نحن أنفسنا من أخلاقياتنا ونراجع خياراتنا.
العربي الجديد