عريب الرنتاوي
أول ما يقفز إلى الأذهان، وأنت تقرأ خبر زيارة وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد إلى دمشق، أن الرجل وفِدَ إلى العاصمة السورية في مهمة تطبيعية مع إسرائيل.. من يقرأ تعليقات عشرات القراء على الخبر الذي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي، يجد أن ثمة غالبية ساحقة منها، ذهبت في هذا الاتجاه، فأبوظبي باتت الأكثر حماسةً للتطبيع، ويبدو أنها لن تدّخر جهداً في سبيل تعميمه.
على أن حظوظ عبدالله بن زايد بالنجاح في مسعاه مع بشار الأسد، ستختلف نوعاً، عن حظوظه مع عبد الفتاح البرهان وخليفة حفتر وعيدروس الزبيدي… الأسد، لديه أراضٍ تحتلها إسرائيل منذ العام 1967، والتطبيع معها قبل إنهاء احتلالها، سيكون بمثابة “جائزة ترضية” مجانية لعدو لا يتوقف عن استباحة أرضه وأجوائه… ومن نافل القول، إن إسرائيل تحت قيادة بينت أو غيره من قادتها، ليست بوارد الجلاء عن الجولان المحتل، سيما بعد أن اعترفت إدارة ترامب بالهضبة، جزءاً من الأرض والسيادة الإسرائيليتين.
ثم أن للأسد حلفاء في حربه الممتدة لعشرية سوداء كاملة، لن يسرهم أبداً إقدامه على تنفيذ قفزة في المجهول من هذا النوع… سوريا بالنسبة لمحور طهران، هي “واسطة عقد” هذا المحور، والأخير دفع دماءً غزيرة ومليارات الدولارات للإبقاء على الأسد في مكتبه بقصر الشعب… هذا ليس خياراً لإيران وحزب الله و”القوى الرديفة”، والأسد ما زال يستشعر حاجتها لهذه الأطراف، فالمهمة لم تنته بعد.
في المقابل، ستجد الخطوة الإماراتية، ترحيباً وتشجيعاً من قبل حليف استراتيجي آخر لدمشق: روسيا، التي سعت بدورها من قبل لـ”تسليك” قنوات تفاوض بين إسرائيل وسوريا، حتى وهي تدرك أن ليس في إسرائيل من هو على استعداد للهبوط عن الهضبة الاستراتيجية… الكرملين الذي يحتفظ بعلاقات متميزة مع أضلاع المثلث السوري – الإماراتي – الإسرائيلي، لا شك يرغب في رؤية دور إماراتي ناشط على هذا المضمار.
لكن للمسألة وجه آخر، لابد من ملامسته، قبل إطلاق الأحكام على مآلات مسعى إماراتي محتمل بين إسرائيل وسوريا… فربما وصلت الأطراف إلى نتيجة مفادها أن ليس المطلوب عملية تفاوضية تنتهي إلى ترجمة مبدأ الأرض مقابل السلام الشهير… يكفي أن تكون هناك “عملية” حتى وإن من دون سلام، حتى تشعر الأطراف بقدر من الرضى عن النتائج، وربما هذا ما كانت تفكر موسكو قبل أشهر عدة عندما حاولت لأول مرة جمع الطرفين في مهمة وساطة.
“العملية” مهمة ومطلوبة بذاتها، حتى وإن لم تنته إلى سلام أو تطبيع، فهي وحدها كفيلة بالشروع في تفكيك أطواق العزلة والحصار المضروبة حول دمشق… إذ دللت التجربة التاريخية، على أنه يكفي أن تنخرط في عملية تفاوضية – سلمية – تطبيعية مع إسرائيل، حتى “يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر”… أليس هذا هو لسان حال جنرالات الجيش والجنجويد في السودان؟… أليس هذا هو المحفز الرئيس للجنرال العجوز خليفة حفتر، للكشف عن مسار التطبيع المُضمر (عبر نجله) ونوايا التطبيع المستقبلية؟… أليس هذا ما يدفع بعيدروس الزبيدي ومجلسه الانتقالي في اليمن، للبوح بنوايا التطبيع مع إسرائيل، نظير تسهيل انبثاق دولة الجنوب المستقلة؟
المهمة الإماراتية في سوريا صعبة، حتى بفرض أنها ستتوقف عند حدود إطلاق “العملية” دون “سلام” أو “تطييع” بالضرورة، وتعود صعوبتها لسببين، إسرائيلي وسوري: إسرائيلياً؛ ليست حكومة بينت بوارد الشروع في مسارات تفاوضية لا مع السوريين ولا مع الفلسطينيين، فمثل هذا الخيار من شأنه البعث برسائل خاطئة، مفادها أنها ستفتح الباب وإن موارباً لخيارات التنازل عن الأرض أو بعضها نظير السلام والتطبيع، وهذا خارج حسابات الائتلاف الهش، المطارد بشبح نتنياهو… سورياً؛ أي رسائل من هذا النوع تصدر عن دمشق، ستحدث اهتزازها في روابط “محورها” وفرضياته، وقد تطيح بكامل البنيان الذي شيّده هذا المحور طوال سنيّ الأزمة العشر.
وأحسب أنه من “الاختزال” رؤية التحرك الإماراتي صوب سوريا من هذا المنظار حصراً، صحيح أنه قد يحتل مكانة محورية في المبادرة الإماراتية، بيد أنه لا يختصرها بالكامل… فثمة بعد كردي – تركي محتمل، أو حتى مرجح في التحرك الإماراتي… أبو ظبي نسجت علاقات وطيدة مع أكراد سوريا زمن العشرية الفائتة، بعد أن “نفضت يديها” من المعارضات السورية ذات المرجعيات الإسلامية في الغالب، وهي أولت اهتماماً بدعم أكراد سوريا بدلاً عنها… وهي إذ تنجح في استحداث قفزة في علاقاتها مع الأسد ونظامه، فإنها ستصبح وسيطاً محتملاً للقيام بجهد بين القامشلي ودمشق.
مرة أخرى، ستجد الدبلوماسية الإماراتية دعماً وتشجيعاً من موسكو، فالأخيرة لطالما بذلت جهوداً في السر والعلن بين النظام والأكراد من دون جدوى، وهي تكثف اليوم هذه الجهود، على وقع الحشود التركية في الشمال، وأبوظبي تشاطر موسكو قلقها من تركيا وسياساتها وتحالفاتها، حتى بعد أن انفتحت عليها، إثر زيارة رجلها الغامض طحنون بن زايد لأنقرة مؤخراً، وتبادل رسائل الغزل بين الدولتين، والتي حلّت محل رسائل الاتهامات والتهديدات المتبادلة.
ولا يتعين بحال من الأحوال، القفز عن فكرة أن “البيزنيس” كان على الدوام مصاحباً للدبلوماسية الإماراتية، فهذه الدولة تعرف من أين تؤكل الكتف، ولديها في سوريا فرص عديدة للنفاذ إلى “الكعكة الكبيرة” تحت مظلة إعادة الإعمار، حين تحين لحظته المناسبة… الإمارات التي نجحت في أن تكون ثاني أكبر شريك تجاري لإيران، الدولة التي تحتل جزرها الثلاث، وتخضع لأشد العقوبات الأميركية صرامةً، يمكنها أن تكون شريكاً تجارياً أولاً لسوريا، برغم قيود “قيصر” الأميركي، وبتشجيع مضمون من “قيصر” روسيا.
عواصم عدة ترقب التحرك الإماراتي صوب سوريا، والذي وإن بدا “منسقاً” مع الدور الأردني الريادي في هذا المجال، إلا أنه يدخل كمنافس قوي لدور عمّان، بالنظر أولاً، لتباين الأدوات والإمكانيات التي تتوفر لدى البلدين، وثانياً، لما تمتع الدبلوماسية الإمارتية من “جسارة” لا تتوفر لنظيرتها الأردنية… من بين العواصم المترقّبة كذلك، الدوحة التي تعرض نفسها كوسيط ومنصة لمختلف أزمات إقليم الشرق الأوسط الكبير، باستثناء سوريا… أما الرياض، فهي تنظر للدور الإماراتي حيال سوريا، كما نظرت إليه في مضمار التطبيع مع إسرائيل: رأس جسر متقدم، تقرر خطوتها التالية في ضوء ما يترتب على الخطوة الإماراتية الأولى من نتائج وتداعيات… أما واشنطن، فيساورها قدر من القلق لتغريد بعضٍ من حلفائها خارج سربها، واستياؤها من الخطوة الإماراتية لا تضاهيه سوى سعادة موسكو بها.
المصدر: الحرّة