عبد الناصر العايد
في مطلع شباط/فبراير 2011، قرر نحو ثلاثين ناشطاً سورياً يقيمون في دمشق، التظاهر أمام مجلس الشعب “البرلمان”، للمطالبة بإنهاء “حالة الطوارئ” المستمرة في البلاد منذ نحو نصف قرن، وكنت أحد هؤلاء.
حددنا موعد التظاهر، الخميس الثالث من شباط، الساعة الثانية عصراً، تزامناً مع ازدحام شوارع المدينة بعد انتهاء يوم العمل الرسمي، وقررنا التجمع في مقهى “الروضة” القريب من البرلمان، قبيل الموعد المحدد بنحو ساعتين. لم ننجح في الوصول إلى البرلمان، فقد اكتشفت الأجهزة الأمنية خطتنا وطوّقت المكان، توجهتُ مع صحافية سورية إلى مكان التجمع البديل وهو مقر شركة “سيرياتل” العائدة لرامي مخلوف قرب “فندق الشام”، وهناك أيضاً كان المكان يعج بعناصر الأمن. اقترب مني ضابط شاب بثياب مدنية، وأخبرني أنه من دورة أخي المتوفى في كلية الشرطة، وهمس لي بأنه ينصحنى بالاختفاء “تماماً”، قال بالحرف الواحد: “أنجُ بنفسك! أقول لك ذلك كرمى لما بيني وبين شقيقك من خبز وملح”.
لم أعر كلامه اهتماماً، وتوجهت مع الصحافية الصديقة إلى مقهى نرتاده في فندق “فور سيزنز”، وبعد دقائق، اتصلت بي السيدة سهير الأتاسي التي كانت معنا في مقهى “الروضة”، مستنجدة، قالت أن ثلاثة من “الشبيحة” يطاردونها، وأنها خائفة جداً، وكانت بالقرب من الفندق أيضاً. خرجت بسرعة، وبالفعل وجدتها وقد أحاط بها عدد من الرجال الغاضبين، وهم يحاولون ترهيبها. رافقتها إلى المقهى، وفي هذه الاثناء وصل الصحافي عامر مطر، أخبرنا على عجالة بأنه سمع أحد عناصر الأمن يخبر ضابطاً من المنتشرين في المكان بأن كلاً من سهير الاتاسي والعايد صارا في “فور سيزنز”، وأن الضابط أمر عناصره بالتوجه إلى هناك، ثم غادرنا، وتبعته السيدة سهير بعدما طلبت سيارة أجرة لتقلها إلى منزلها. مرّ الأمر بسلام، واتصلت بنا سهير من بيتها. عندئذ قررت مع زميلتي أن نغادر، لكن ما أن صرنا على الرصيف، حتى اطبق علي عناصر الأمن ودفعوا بي إلى المقعد الخلفي في سيارة، وأجبروني على الانحناء حتى كاد وجهي يلامس أرضية السيارة التي انطلقت بسرعة كبيرة.
وصلنا إلى مكان ما، عصبوا عينيّ وأنزلوني، أصعدوني درجاً معدنياً ضيقاً، وأوقفوني في ما يبدو أنه ممر، ووجهي إلى الحائط. مرت ساعات انتظار طويلة، وكان كل من يمرّ بالقرب مني يضربني، ثم سمعت جلبة، والتقطت همس أحد العناصر يقول لزميله: “وصل العقيد رئيس القسم”. عند ذلك خمنت أن المكان هو القسم “أربعين”، الذي يقوده ابن خال رأس النظام، العقيد حافظ محمد مخلوف، وهو الضابط الوحيد الذي يقود جهازاً أمنياً برتبة عقيد.
بعد وقت من وصوله، أُدخلت إلى مكتبه. كنت معصوب العينين، فسألني من أعتقد انه العقيد حافظ مخلوف، أسئلة روتينية من التي تُسأل للموقوفين. ثم سؤالي عن التظاهرات التي قمنا بها ابتداء من منتصف كانون الثاني/يناير لمناصرة الثورتين التونسية والمصرية، ووصف ما نقوم به بأنه جزء من مخطط يستهدف النظام، و”الرئيس” على نحو خاص، وأن الغاية منه هو تجييش الشارع للوصول إلى اللحظة التي يقول فيها المتظاهرون “الشعب يريد إسقاط النظام”. ثم صمت، وتحرك من مكانه واقترب مني. قال لي: افتح فمك، ثم دفع سبطانة مسدس في فمي، وقال:” إذا حدث، وهتف أي شخص بعبارة الشعب يريد إسقاط النظام، ورغم أنك ستبقى هنا، فإنني سأقص جوزة حلقك”. ثم طلب من عناصره “فعسي” أمام عينيه، أوقعوني أرضاً وركلوني، لا أعرف كم كان عددهم، لكن الركلات طاولت كل مكان في جسدي، ثم سحلوني إلى الخارج، حيث أُوقفتُ أيضاً في ممر.
بعد ساعات، اخذوني إليه مجدداً، قال لي بأنهم سيطلقون سراحي، لكن بطاقتي الشخصية وهاتفي سيبقيان لديهم، وأنهم سيرسلون في طلبي بطريقتهم الخاصة، وحينها يجب ألا أتأخر.
أطلقوا سراحي في منطقة وسط دمشق، وفي صباح اليوم التالي، اتصلوا من هاتفي إلى هاتف الصديقة الصحافية، وطلبوا منها إخباري بأن اتصل على رقمي من هاتف عمومي. بالفعل اتصلت إلى هاتفي، فردّ شخص تكلم بلطف وقال لي أن شخصاً ما سينتظرني عند نقطة الحراسة القائمة أمام شركة الطيران التركية في وسط العاصمة، عند الساعة الحادية عشرة صباحاً. توجهت مع الصحافية إلى منزل المحامي الصديق خليل معتوق، وطلبتُ مشورته، فأشار علي بالحذر، وان تبقى الصحافية على مبعدة مني لمراقبة ما سيحدث. وصلت النقطة قبل نحو نصف الساعة من الموعد المحدد، كان يوم جمعة، والشوارع شبه خالية، والجو ماطر نوعاً ما. توجهت إلى “الكولبة”، وكان فيها عنصر شرطة بزي النظام، سألته عن بطاقتي وهاتفي، فأبدى استغرابه، وقال إنه لم يبلغ بأي شيء بهذا الخصوص، ثم توجه إلى الداخل واتصل بقائده، وعاد مكفهر الوجه وقال لي إنه غير معني بهذا الأمر، وطلب مني الابتعاد. توجهت إلى مقهى قريب وجلست فيه أراقب، في تلك الأثناء توقف باص على بعد نحو مئة متر من نقطة الحراسة، هبط منه نحو عشرين شخصاً يحملون أعلاماً وصوراً على عصي طويلة، فتذكرت على الفور شائعة وصلت إلى مجموعتنا قبل يومين، تقول أن النظام جهز مجموعة من الشبيحة ليقوموا بتظاهرات في أماكن تظاهرنا، ليصطدموا خلالها معنا ويضربونا بأي ذريعة، وأنهم سيستخدمون العصي التي يرفعون عليها الأعلام.
ازدادت شكوكي، عندما شاهدت أحد هؤلاء يشير إلى النقطة والآخرون يصغون إلي. وضعت احتمال أن يكون هذا التجمع بهدف ضربي في الشارع، لتأديب مجموعة النشطاء الذين يريدون تفجير حركة احتجاجية، من دون أن تكون الأجهزة الأمنية على صلة مباشرة بالأمر. فغادرت المكان، وعدت إلى المحامي معتوق الذي أكد شكوكي وأيد ما ذهبت إليه.
بعد ساعات اتصلوا مجدداً من هاتفي على هاتف الصديقة الصحافية وطلبوا منها أن اتصل بهم من هاتف عمومي أيضاً. تحدثت إليهم، وكان الشاب ذاته، عاتبني بلهجة لطيفة لعدم حضوري، فقلت له الأمر كما خمّنته، فسخر من شكوكي وقال: عد إلى المكان ولا تفكر بهذه الطريقة “الغريبة”.
عدت إلى المكان بعد تردد، وجدت إلى جانب الشرطي، شاباً أنيقاً ولطيفاً، بادرني بالسلام وقال لي إنهم سيسلمونني أغراضي في حارة جانبية، وراح يتحدث معي حول أنني ما كان يجب أن أفكر بهذه الطريقة “الخيالية”. مشينا نحو عشرين متراً، وأشار إلى سيارة متوقفة قائلاً أن اغراضي فيها، ويجب أن أوقع وثيقة تفيد باستلامها. لكني عندما وصلت إلى السيارة، دفعني شخصان كانا يسيران خلفنا داخلها، وعُصبت عيناي، وانطلقت بسرعة.
أعادوني إلى المكان نفسه، وهناك قابلني شخص نادوه بالمقدم، علمت في ما بعد أن اسمه خالد العلي، وهو نائب حافظ مخلوف، وهذا ضربني وأمر عناصره بضربي لإخباره عمن كان مكلفاً بتصوير عملية اعتقالي! فهمت أنهم كانوا يعتقدون أن شخصاً أو أشخاصاً كانوا يتمركزون في مكان ما، لتصوير عملية اعتقالي، وإرسالها إلى القنوات الفضائية، ولا أدري ما مصدر مخاوفهم تلك.
في وقت متأخر من تلك الليلة، نُقلت من ممرات ذلك المكان إلى مكان آخر، حيث وضعت في زنزانة انفرادية، وتبين لي بعد اطلاق سراحي أن المكان الذي نقلت إليه هو فرع الخطيب أو فرع الأمن الداخلي بجهاز أمن الدولة، الذي يتبع له “القسم أربعين”.
في ذلك المكان كانت كل تحركاتي تتم وأنا معصوب العينين، تعرضت للضرب بالأيدي والعصي، لكني لم أتعرض لتعذيب ممنهج كالذي تعرض له آخرون. كنت أسمع على مدار الساعة، أصوات صراخهم وتوسلاتهم، خصوصاً في الليل المتأخر، وقد شاهدت بنفسي الحدث التالي:
طوال ليالي اعتقالي كنت اسمع صوت شاب مميز يصرخ أثناء التعذيب، كان صوته حاداً، وكان يعذب كل يوم عند منتصف الليل، ويكرر دائماً أنه قال كل شيء للمحقق ولا يعرف المزيد، ولم يكن هناك من يسأله أصلاً، كانت لديه “وجبة” تعذيب وحسب.
كنت في زنزانة في قبو البناء، هي واحدة من صفين من الزنزانات تطل على ممر طوله نحو عشرة أمتار، والزنزانة حيز باتساع أقل من مترين مربعين، ولم أكن استطيع التمدد فيها بطولي الكامل، بل كنت أنام مثني الركبيتين، ولا توجد سوى فتحة واحدة على مستوى الوجه، تتسع لمرور رغيف خبز أو حبة بطاطا، وهي تغلق من الخارج، في بعض الأحيان تترك مفتوحة ليلاً لتهوئة الزنازين، ويوجد في الممر سرير عسكري يتناوب الجلوس عليه عنصرا أمن يراقبان الزنازين على مدار الساعة.
بعد منتصف ليلة الأربعاء 9 شباط 2011، كان الشاب يتعرض للتعذيب المعتاد في مكان قريب، وعلى نحو مفاجئ بدأ صوته يقترب من الزنازين، ثم صار واضحاً أنه اصبح في الممر الذي تنتظم الزنازين على طرفيه. وقفتُ واسترقت النظر بحذر من فتحة التهوئة التي تركت مفتوحة في تلك الساعة. كان ثمة شاب يقعي على الأرض مكبل اليدين إلى الخلف، يرتدي ثياباً صوفية داخلية من التي يرتديها الرجال في سوريا شتاء تحت ثيابهم، ولا شيء سوى ذلك، وفوقه يقف عنصرا الأمن اللذان كانا يقومان على حراستنا في تلك الليلة، وهما يشهران أداة التعذيب المعروفة جيداً في سوريا بإسم “الكبل الرباعي”. كان الشاب يصرخ، وهما يضربانه بمنتهى القوة والعنف. كان القسم العلوي من ثيابه قد انحسر عن جذعه، وكذلك بنطاله، نتيجة تقلبه العنيف في محاولته اتقاء الضربات المتتالية، فجأة توقف الضرب وابتعد العنصران عنه، لم افهم ما حدث بالضبط لأنني كنت أراقب بشكل موارب خشية أن يشاهداني. كانا يقفان شاهري أداتي التعذيب وطلبا منه أن “يزيلها”، لم أفهم ماذا يزيل، كان يصرخ باكياً ويقول أنه سيفعل، ويتوسل إليهما فقط أن يتوقفا عن ضربه. ثم ركع الشاب الذي كان مكبل اليدين على الأرض، وراح يلعق شيئاً هناك، فيما العنصران ما زالا يرفعان السياط عالياً، وعندما دققت النظر فيما كان يفعله وجدت أنه يلعق غائطاً، ويبدو أنه فعلها على نفسه بسبب الضرب، وساد الصمت. كان الشاب يلعق الأرض بطريقة توحي باعتياده فعل ذلك، وأنها ليست المرة الأولى، وكان أحدهما يلح عليه لكي ينهي عمله بسرعة، وعندما انتهى الشاب، رفع رأسه ونظر بخوف إليهما، فهوت عليه في الوقت ذاته ضربتي سوط شديدتين من كلا الحارسين. صرخ حينها مجدداً، واختلط صراخه بالحشرجة والاختناق بالغائط الذي عاد الى الأرض والجدران، فارغموه مجدداً على لعق الأرض، والجدار هذه المرة. ثم أعادوه إلى مكان التعذيب المعتاد، حيث يمكنني سماع صراخه مع آخرين كل ليلة.
استمر الأمر على هذا الحال. كانوا يأتون كل يوم مرتين على الأغلب، يطلبون مني خلع حذائي وجوربي، ثم الالتفات إلى الحائط، يفتحون باب الزنزانة بعد ذلك ويقيدون يديّ ثم يعصبون عينيّ ويقتادونني إلى التحقيق، حيث يحقق معي أشخاص مختلفون، لمست أن أحدهم كان على درجة عالية من الثقافة، ولا أعتقد أنه ضابط أو عنصر أمني، هذا الشخص عاملني باحترام كبير، وأجلسني على كرسي، كانت محادثتي معه نوعاً من نقاش ثقافي وليس تحقيقاً. سألني مثلاً كيف يمكن لسوريا أن تكون بلداً متقدماً، وطرح وجهة نظر من جانبه، ناقشني في كيف يمكن أن تكون علاقة البلاد مع إيران وحزب الله، وعن القضية الكردية، وكان موضوعياً في الطرح، ثم سألني عن قصة انسحابي من كتابة سيناريو عمل تلفزيوني مع المخرج نجدت أنزور، وقال إنه قرأ كل شيء في الصحف. قلت له أنني لم أعد على قناعة بذلك العمل ولهذا انسحبت منه، فأشار إلى المبلغ الكبير الذي كان يمكنني الحصول عليه حينها من إتمام العمل على السيناريو (نحو 100 ألف دولار)، وقال لي أنه من الممكن أن نتكلم مع “الأستاذ” ونعيد الأمور إلى مجاريها، وألمح أيضاً إلى إمكانية منحي المبلغ بشكل مسبق لكي أتمكن من “التفرغ” لهذا العمل المهم. أعدت القول بأني لم أعد مقتنعاً بهذا العمل. وبعد صمت قال لي: “يبدو أن لديك مصدراً آخر للمال ولست بحاجة هذا الفتات”. ثم سألني إذا ما كنت قد بعت أسرار القوى الجوية التي كنت ضابطاً فيها، لإسرائيل، فصمتّ ولم أُجب. نهض، أمرني بخشونة أن أهبط عن الكرسي وأجثو على الأرض، ثم صفعني بشدة وغادر وهو يقول: حاقد كبير ولا أمل منك.. ابق هنا حتى “تتخ”.
لم أتعرض للتعذيب الشديد الذي تعرض له آخرون، لكنني كنت أضرب بشدة لدى خروجي للتحقيق أو الحمّام مِن كل مَن أمر به. حلقوا شعر رأسي على “الزيرو”، وفي إحدى المرات أدى ارتطام رأسي بشيء ما أثناء الضرب إلى جرحه.
في يوم الجمعة 11 شباط، استُدعيت إلى ما كنت أظنه جولة تحقيق مسائية أصبحت معتادة. سرت حافياً ومقيداً ومعصوب العينين إلى غرفة التحقيق، وما إن تجاوزت العتبة حتى جاءني صوت أسمعه للمرة الأولى يقول باستغراب: “ما هذا؟ حافٍ في هذا الجو البارد؟ اين جواربه وحذاءه”. وأمر بإحضارها بسرعة، وطلب من شخص آخر أن يفك قيدي، وأجلسني على كرسي، وعندما رفعوا العصبة عن عينيّ، رأيتُ رجلاً خمسينياً يرتدي بذلة رصاصية اللون وربطة عنق، يمد يده لي بالسلام مع ابتسامة. عرّف عن نفسه بأنه العقيد أنور رسلان، رئيس قسم التحقيق في الفرع الداخلي لأمن الدولة. قدموا لي القهوة، وقدم لي سيجارة رفضتها، وطلب مني أن أخبره بكل ما جرى معي منذ لحظة اعتقالي، وكان يبدي الأسف لما حدث، محاولاً أن يظهر الأمر وكأنه لا علاقة له به، ثم خاض في نقاش حول رواية لي قال أنه قرأها، ومن خلال النقاش بدا لي فعلاً أنه قرأ روايتي المحظورة في سوريا “سيد الهاوما”، وبعد نحو ساعتين، اتصل بشخص ما، وقال له: “نحن جاهزون سيدي”.
طلب مني مرافقته، قيدني عناصره مجدداً، وقال لي أن هذا إجراء شكلي، مشيت معه خارج القبو، وكنت غير معصوب العينين، فوجئت بأن كل من يقابلني يحيي العقيد ثم يحيني بلقب “أستاذ”. خرجنا من القبو إلى ساحة، ثم دخلنا بناية صغيرة، صعدنا درجاً، كان شخص ما بانتظارنا خاطب العقيد أنور بعبارة “سيدي”، فك قيدي، وقال للعقيد “المعلم بانتظاركم”. حين دخلنا، عرفتُ الشخص، هو العميد توفيق يونس، رئيس فرع الأمن الداخلي، وقد رأيته مرات عديدة يراقب تظاهراتنا عن كثب ويعطي التعليمات لمساعديه. كان توفيق يونس مضطرباً، يقول شيئاً ثم يتقطع كلامه، وكان دائماً يهم بقول شيء ثم يحجم. قال لي أنهم احتجزوني لإنقاذي من مؤامرة، وأنهم علموا أن الإخوان المسلمين على وشك اغتيالي في الشارع، للإيحاء بأن المخابرات هي من قتلني، على أمل أن يفجر ذلك “ـحداثاً” مشابهة في سوريا لما يحدث في تونس ومصر، فأشرت إلى رأسي المحلوق والجرح الذي فيه وقلت له بسخرية: “هل تتم الحماية بهذه الطريقة؟”. أنكر معرفته بذلك، وتساءل مع العقيد عمن يكون قد فعل ذلك، وتبادلا ابتسامة ساخرة. في النهاية قال لي: أنت الآن حر، لكننا سنتصل بك لنتحدث قليلاً حول المظاهرات ودوافعها، وأمرني بشكل صارم: “لا تغلق هاتفك، ورد على كافة الاتصالات”. أراد أن يقول شيئاً، لكنه أحجم مرة أخرى، وفي النهاية طلب مني الانتظار في غرفة مدير مكتبه، فيما استبقى العقيد أنور، وما أن خرجت حتى قام مدير مكتبه بتقييدي مجدداً، وبعد دقائق قليلة خرج أنور، سحبني من ذراعي وقال مبتسماً “إفرح يا عم” وسحبني من ذراعي، ففوجئ بالقيد في يدي، ونظر الى مدير المكتب وقال له: “فك قيده، تم الإفراج عنه”. فرد الرجل بلهجة حازمة: “فك قيده في مكتبك سيدي”. تظاهر العقيد بالصدمة وهو ينظر اليه بحدة، فكرر الرجل عبارته وهو يشير إلى الباب: “في مكتبك.. سيادة العقيد”. رضخ أنور، واقتادني من ذراعي، وعندما كنا نهبط الدرج استعاد ابتسامته وقال لي:” يقول لك العميد، أن السيد الرئيس اتصل شخصياً للإفراج عنك، وأنك الآن مدلل، ولن يستطيع أي شخص في سوريا أن يقترب منك”. هززت ذراعي المقيد الذي كان يقودني منه، وقلت ضاحكاً: “هذا واضح جداً”. فضحك لكنه نهرني وطلب مني أن أصمت.
بعدما غادرت الفرع بنحو أسبوع، اتصل بي العقيد أنور، طالباً حضوري إلى الفرع، وكنت حينها أرافق والدي الذي أصيب بنزيف دماغي إثر اعتقالي ودخل في غيبوبة، أخبرته أنني مع والدي في مشفى العباسيين وسط دمشق، وأننا مقبلون على عملية لفتح الرأس لمعالجة النزيف، فطلب مني اسم القسم ورقم الغرفة، وقال أن ذلك بهدف أن يزورني، مبدياً أسفه لأجل ذلك، لكنه لم يحضر، بل عاود الاتصال بي مرة أخرى خلال أيام. كان والدي قد خرج من العملية، فألحّ علي للحضور إلى الفرع، شربت قهوة في مكتبه، سألني عن الأوضاع في الشارع، فأخبرته أنني لا أعرف أي شيء خارج الغرفة التي يمكث فيها والدي. غادرت بعد نحو ساعة، وشعرت بأنه لم يقل ما كان يريد قوله.
كانت هذه المرة الأخيرة التي قابلت فيها أنور رسلان في دمشق التي غادرتها مع والدي الى دير الزور يوم 18 آذار 2011، وهو اليوم الذي تفجرت فيه الأحداث في درعا ووقع قتلى، داهمت دورية أمنية منزلنا في صباح اليوم التالي. لحسن الحظ لم أكن هناك، وعرفت أنني لن استطيع العودة إلى دمشق، غيرت رقم هاتفي وبقيت في تلك المنطقة لأن اعتقالي فيها صعب جداً.
بعد نحو سنة ونصف غادرت سوريا إلى مدينة اسطنبول التركية، وفي نهاية سنة 2012، اتصلت بي الفنانة الراحلة مي سكاف من الأردن، واخبرتني بانشقاق أنور رسلان، وأنه تواصل معها وطلب منها رقم هاتفي. تواصلت معه لفترة من الزمن عبر تطبيق “فايبر”، قال لي أنه طوال الوقت كان يحاول الاتصال بي لمساعدته في الانشقاق، كوني العسكري الوحيد الذي يعرفه من المعارضة، وأنه توقع بحكم كوني ضابطاً سابقاً أن أكون عضواً فعالاً في الجيش الحر، وأكد أن عجزه عن تأمين عملية الانشقاق هو ما أخّر هذه العملية. حاولت أن أقنعه بالتحدث إلى الإعلام وكشف معلوماته عن أجهزة النظام وجرائمها بحق الشعب السوري، وكشف مصير المعتقلين خصوصاً منذ اندلاع الثورة، لكنه رفض قائلاً أنه لا يحب الظهور الإعلامي، ويفضل العمل الفعلي، ولو كان في الكواليس، لكنه سيقول كل ما يعرفه في الوقت المناسب.
في مطلع سنة 2014، أو نهاية سنة 2013، وصل العقيد أنور إلى اسطنبول، لا أتذكر الموعد بدقة لكنني أذكر أنه كان فصل الشتاء، التقينا، وأخبرني أنه جاء لإنشاء جهاز أمني للمعارضة مع عدد من زملائه المنشقين عن أجهزة الأمن، ولأنني لم أكن عضواً في أي من تشكيلات المعارضة، سواء العسكرية أو السياسية، فقد تحاشيت سؤاله عن هذا التشكيل الجديد أو تفاصيله، وهو أيضاً كان متحفظاً.
بعد نحو أسبوع، اتصل بي ليلاً، كان يبدو متعباً، وسألني إن كان بإمكاني أن أقابله في ساحة “تقسيم” في اسطنبول. ذهبت إلى المكان، فوجدته يقف تحت المطر الغزير حاملاً حقيبته، بدا متأثراً جداً، قال لي أن الشخص الذي جاء به وبعدد من الضباط، فعل ذلك للاتجار بهم لدى جهة ما والحصول على تمويل، ويبدو أن العملية فشلت، واختفى الشخص وأغلق هاتفه، فقرر مع زملائه بعد أيام من الانتظار أن يغادروا الفندق والعودة إلى منازلهم، وهو كان سيعود إلى الأردن حيث عائلته، لكن عندما أرادوا المغادرة، تبين لهم أن أجور الفندق غير مدفوعة، كما زعم الوسيط الذي جاء بهم، الأمر الذي اضطرهم لجمع كل ما لديهم من مال، لسداد الأجور، وأنه أصبح الآن “في الشارع” حرفياً، وليس لديه ثمن علبة سجائر، وفي لحظة من اللحظات بكى لما لحق به من إهانة. سألني إن كان يستطيع أن يمكث عندي بضعة أيام ريثما يتدبر أموره، فرحبت به، واستقر في المنزل لنحو أسبوع على ما أذكر، وكان عندي في المنزل ضيوف آخرون من دير الزور.
ثم غادر إلى الأردن، شاهدته مجدداً في اجتماع للائتلاف، ثم علمت انه حصل على اللجوء في ألمانيا، ثم تقطعت اتصالاتنا حتى قابلته للمرة الأخيرة، مطلع سنة 2015، في مدينة غازي عنتاب التركية، وحينها كانت المخاوف الأمنية قد استبدت به، وبدا مرتاباً في كل شخص حوله. روى لي حادثة عن محاولة اختطافه من قبل مخابرات النظام، بالتعاون مع طبيب سوري كان يتردد إليه للعلاج في ألمانيا، وكان يعتقد بشدة أن مخابرات النظام قادرة على اختطافه وإعادته إلى دمشق، وأبدى خشيته من عدم تقدير المخابرات الألمانية للمدى الذي يمكن أن يذهب إليه النظام في عملياته.
منذ ذلك التاريخ لم ألتق بأنور رسلان، إلا في قاعة محكمة كوبلنز في ألمانيا، يوم 30 أيلول سنة 2021، عندما دُعيت للشهادة في قضيته.
المصدر: المدن