لعل مزيج الصدفة والاهتمام، بما يُنشر ويُترجم حول التاريخ العثماني للمدن العربية، هو ما قادني إلى عتبة أحد الكتب المُترجمة حديثاً للعربية تحت عنوان «عرب الإمبراطورية العثمانية: تاريخ ثقافي واجتماعي 1516- 1918». وقد عمل مؤلف الكتاب، المؤرخ الأمريكي بروس ماسترز، لما يقارب الأربعة عقود على تاريخ المدن العثمانية، ولاسيما مدينة حلب، إضافة إلى انشغاله بموضوع تاريخ اليهود ودورهم في المدن العثمانية.
يحاول ماسترز في كتابه هذا، الصادر بنسخته الإنكليزية الصادرة عن كامبريدج 2013، الخوض في تحديث تجربة كتابة تاريخ عام للوجود العربي في زمن العثمانيين، وهو تحديث يُعدُّ استكمالاً، وليس استبدالاً، لما يقول إنها جهود بذلها أساتذة كان لهم فضل كبير في تعريفه بهذا التاريخ. ففي عام 1966 كان المؤرخ بيتر هولت الأستاذ في كلية الدراسات الشرقية والافريقية في لندن، يؤسّس لأول تاريخ حول العرب العثمانيين، من خلال كتابه «مصر والهلال الخصيب». مستنداً في كتابه، بشكل أساسي، إلى عرض الأحداث المحلية وفقاً لتسلسلها الزمني في المنطقة العربية، وألحقها بتقارير كتبها الرحّالة الأوروبيون. بعد هولت بسنوات، سيأتي تلميذه (المؤرخ السوري عبد الكريم رافق) ليكمل التجربة ذاتها من خلال إصداره لكتابه الشهير «العرب والعثمانيون 1516- 1916» في عام 1974، ليكون أول كتاب بالعربية يصدر عن هذه الفترة. وقد تميّز بمقارباته الجديدة والمتجاوزة للرؤية الماركسية، وحتى القومية السائدة آنذاك، التي بقيت مشدودة لقراءات منحازة وأيديولوجية في العموم. تنحّى لاحقاً هذا المشروع، الذي شمل قراءة عامة مع الزمن، لصالح تاريخ أكثر تفتيتاً، وفق تعبير فرانسوا دوس، عبر قدوم علماء وباحثين آخرين أظهروا اهتماماً بتواريخ محلية، كما في حال القاهرة ودراسات أندريه ريمون، أو أيضاً عبر تجاوز مرحلة نبش المصادر الجديدة لصالح مقاربات أنثروبولوجية، وقراءة في يوميات العامة (كما في حال دانا السجدي مع يوميات حلاق دمشق).
بيد أن الملاحظ في السنوات الأخيرة، وخلافاً لهذه الرؤية، عودة الاهتمام بكتابة رؤية كلية لهذا التاريخ. فخلف الاختلافات المحلية والتفاصيل اليومية، تكمن صورة كلية ومشهد أوسع. كما أن بعض هذه الدراسات نتجت بالأساس عن سلسلة محاضرات ألقاها عدد من هؤلاء الباحثين على تلامذتهم، كمدخل للتعريف بهذا التاريخ، وكمثال يمكن أن نذكر، بالإضافة إلى كتاب ماسترز سالف الذكر، كتاب جين هاثاوي «البلاد العربية في الحكم العثماني 1516- 1800».
بالعودة إلى كتاب ماسترز، نلاحظ أن ما يميز هذا الكتاب، بالإضافة إلى عدد من الكتب في السياق ذاته، تأكيده منذ البداية على ضرورة تجاوز فكرة الانحطاط العثماني في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ أن النظرة السائدة بين علماء الإمبراطورية العثمانية في الوقت الحاضر، أنه على الرغم من التقلّب المستمر للإمبراطورية خلال القرن الثامن عشر، إلا أنها لم تصل بالضرورة إلى حالة التدهور. كما يرى في هذا السياق، أن الإمبراطورية لم تختف تماماً خلال ثورة أتاتورك، «فالجيل الأخير من الضباط والبيروقراطيين العثمانيين، حوّلوها إلى جمهورية تركيا، التي انبثقت من مخطط لعصرنة البلد كان قد خطط له أسلافهم أولاً في عهد التنظيمات». ولعل في هذه الإشارة ما يتقاطع مع ما ذكره المؤرخ التركي البير أورتايلي عندما وصف أتاتورك، في كتاب صدر له العام الفائت، بالغازي أتاتورك، في إشارة للبعد العثماني، وللجذور العثمانية لهذا الضابط الذي تميّز عن جيل أنور وطلعت وجمال بإدراكه للعبة الدبلوماسية». وفي معرض تنقيح بعض النماذج، يتساءل ماسترز حول حقيقة وجود «عصر للأعيان شبيه بالصورة التي رسمها البرت حوراني». وفي هذا السياق، بدا ماسترز مشككاً بهذه النتيجة، كما فعلت دينا رزق خوري في سياق دراستها لدور عائلة الجليلي في الموصل، إذ إن مقولة الأعيان تفترض وجود انقسام بين الدولة والمجتمع، في حين تبيّن بعض التجارب، أن الممارسة السياسية للأعيان لم تذهب قط أبعد مما هو محلي ومباشر، ولم تكن لها تأثيرات طويلة على سياسات الدولة المركزية، التي تبدو من خلال السجلات الشرعية في القرن الثامن عشر أكثر انتشاراً بكثير مما كانت عليه في أي فترة أخرى.
كما نجد في الكتاب فصولاً حول دور علماء الصوفية، وشراء الكتب في المدن العثمانية. ومما يذكره في موضوع التعلم، عدم اقتصار التعلم وحب الكتابة، أو القراءة على الطبقات الدينية فقط، إذ نعثر على توصيف لجنود عثمانيين في القرن السابع عشر، توفوا تاركين في تركاتهم كتبا ومخطوطات. ففي حلب مثلاً، نعثر بين ممتلكات جندي عثماني، يُدعى سالم بك ابن الحاج يوسف، توفي في حلب عام 1679، على عدد غير معروف من الكتب؛ منها كتب في القانون والنحو والحديث النبوي، وتبلغ قيمتها 130 قرشاً، وهو مبلغ كان يساوي آنذاك أكثر من سعر خادمته وحصانه وبغله معاً.
ولكن ما علاقة كتاب ماسترز بتحريف أسماء العائلات ومؤرخيهم المعاصرين؟
ربما ما يميز كتاب ماسترز، اعتماده على نتائج أبحاثه وأبحاث مؤرخين كثر في هذا السياق، وهذا ما قد يُلاحظه أي مطّلع أو متابع لهذا الحقل، إذ لا تخلو صفحة من الكتاب من إشارة لعنوان كتاب أو لجهد باحث في هذا السياق. ولا أخفي، أنه رغم معرفتنا بقسم كبير منها، بقينا مدهوشين من الكم الكبير للإنتاج الغربي الذي أُنجِز في السنوات الأخيرة حول تاريخ المدن العثمانية. بيد أن الدهشة لم تقتصر على هذه العناوين، بل أيضاً في الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها مترجم الكتاب، وهو يقوم بترجمة أسماء عدد من المؤرخين، أو أسماء بعض العائلات العثمانية في القرن الثامن عشر. فمنذ الصفحات الأولى، يبدو أن مترجمنا (الشاعر العراقي عبد الحكيم ياسين) قرّر الخوض في ترجمة هذا المؤلَّف، بدون معرفة مسبقة بالعالم العثماني، أو حتى بدون أن يكلِّف نفسه عناء الاستعانة برأي باحث متخصص في هذا التاريخ. وكانت النتيجة، للأسف، أخطاء كبير على صعيد ترجمة ونقل الأسماء التاريخية والمعاصرة.
وبدءاً من الصفحات الأولى، في سياق التعريف وإشارة ماسترز لدور أستاذه عبد الكريم رافق (المؤرخ السوري)، نجد أن ياسين يذكر الاسم بالصيغة التالية «عبد الكريم رفيق». وقد ظننت في البداية أن هذا الخطأ قد نتج عن سوء تحرير أو عدم تدقيق، بيد أن الوهم سرعان ما كان يتلاشى، وأنا أتقدم في جغرافيا الكتاب والأسماء، ذلك أن الخطأ لم يقتصر على اسم أستاذنا السوري، بل شمل غالبية علماء العثمانيات المعاصرين، فالمصرية نيللي حنا، تصبح مع ترجمة شاعرنا البغدادي (نيلي هانا)، وثريا فاروقي (التي تُرجِمت لها دراسات عديدة في عالمنا العربي) يصبح اسمها في ترجمة كتاب ماسترز (سورا فاروغي)، وعالم العثمانيات (خليل اينالجيك) يغدو صاحب اسمين (مرة اسمه المعروف والمُترجم للعربية) وتارة (هاليل أناجوك)، إضافة إلى عشرات وعشرات الأسماء التي حملت مع مترجمنا تسميات أخرى. لم تقتصر هذه الأخطاء على اسماء المؤلفين المعاصرين وحسب، وهي أسماء سبقت ترجمتها للعربية في عالمنا، وإنما طالت أسماء عائلات محلية عثمانية كبيرة ومعروفة. ففي الفصل الثالث مثلاً، نعثر على العبارة التالية «في القرن التاسع عشر، أصبحت عوائل مثل (أزمس) في دمشق أو عائلة الجليليين في الموصل»، وهنا قد يتساءل أي قارئ وبشيء من الغرابة عن طبيعة عائلة «أزمس» وأصولها، وأين ذُكِرت. بيد أن هذه الأسئلة ستختفي حين يعلم أن المقصود بأزمس هي «عائلة العظم» المعروفة، التي حكمت دمشق في القرن الثامن عشر، وبقيت تلعب دوراً سياسياً ولاحقاً ثقافياً في تاريخ سوريا المعاصر.
ولكن من يتحمل مسؤولية هذه الترجمة الحرفية؟
ذكرتني ترجمة الكتاب هذه، بالأنثروبولوجية الإيرانية الأمريكية نيلوفر حائري، التي تؤكّدُّ، في سياق قراءتها لعالم صناعة الكتاب ومحرري المطابع ودور النشر في مدينة القاهرة، على أن اللغة المطبوعة والمترجمة تمرُّ بعدد من التدخلات قبل أن تتحول لنص ما. وعادة ما تتنوع هذه التدخلات في الدرجة والشدة بين فروع المعرفة المختلفة، ودور أيديولوجية الدولة، وبين مهارات المحررين الذين يشاركون في تحرير النص المطبوع، مروراً بسوق النشر، وطبيعة الناشرين وغيرها من العوامل. لتتوصل في خاتمة دراستها الميدانية إلى أن المؤلف ليس وحده من يقرر شكل نصه، وليس حراً تماماً، الأمر الذي يساهم في موت المؤلف وولادة نص تشارك في طبخه أياد عديدة، بدون أن يعني ذلك ضرورة فشل هذا النص، وفق ما يحول إليه المثل الشعبي (كثرت الأيادي احترقت الطبخة)، وإنما يقود أحياناً إلى خلق صناعة جيدة للكتاب وظهور نصوص أكثر جمالية ووضوحاً.
أما في حال كتابنا «عرب الإمبراطورية العثمانية»، فإن ما يُلاحظ هو غياب أيادي أخرى في أخراج هذا النص، فالمترجم لم يخن في ترجمته النص الأصلي، وربما هي من شيم الترجمة، بل خانته فطنته، وربما خانته ظروف النشر في عالمنا العربي اليوم. فبدلاً من توجيه هذه الترجمة إلى كاتب متخصص مثلاً بتاريخ العثمانيين، أو محرر ماهر، يكتفي المترجم ودار النشر بإصداره، بدون أي مراعاة لحساسية موت مؤلفين وولادة مؤلفين من عالم آخر بدلاً عنهم. فالمسؤولية هنا لا يتحملها المترجم لوحده، بل وأيضاً دار النشر التي قصّرت في توفير مراجعين جادين. ربما تبرّر دار النشر هذا الأمر بضيق الوقت وزيادة التكاليف، وغياب الكوادر الكافية لذلك، وقد تكون محقة في ذلك (رغم أنه ليس بمبرر)، غير أن اللافت للنظر في ترجمة الحروف هذه، هو أنها لم تعد تقتصر على دور النشر الصغيرة، وإنما طالت دور نشر كبيرة. فمثلاً وفي سياق مشابه، تقوم المترجمة اللبنانية ماريا الدويهي، في ترجمتها لكتاب جايمس بار «خط في الرمال» والصادر عن دار الساقي العريقة، بترجمة أسماء مثل حقي بك العظم (رئيس الوزراء السوري الأسبق) بـ»حقي بك العزم»، أما تاج الدين الحسني (رئيس سوريا خلال الانتداب الفرنسي) يظهر في الترجمة ذاتها باسم «تاج الدين حساني»، وخالد العظم (وزير المالية السوري) باسم خالد العزم ومحسن البرازي (الطبيب والسياسي السوري المعروف) باسم محسن بارازي ، وكل هذه الأخطاء في فصل واحد. لا يعكس تكرار الأخطاء هذا، في أكثر من ترجمة لأسماء شخصيات سياسية وتاريخية، مشكلة فقط لدى المترجم ومعرفته بمفردات وتاريخ الحقل الذي يترجمه فحسب، بل أيضاً يعكس مشكلة لدى دور النشر، ويعكس تراجع صناعة الكتاب في عالمنا العربي. فدور النشر لم تعد تولي أهمية تُذكر لفكرة وجود محرر يتولى قراءة النصوص ليبدي ملاحظاته، أو باحث متعاون. وإن كان هذا الإهمال على حساب الجدية والحرفية وتزوير التاريخ، والنتيجة: طبخ مسلوق.. وما أكثر هذا الطبخ في عالمنا العربي اليوم.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي 24 آب/أغسطس 2019